عبد الرحمن إبراهيم محمود ذلك الشاب العشريني، طالب كلية التجارة جامعة القاهرة، والذي تم إعدامه في غفلة انشغال الشارع المصري بمتابعة المونديال، وفي سياق مشهدٍ كئيب لغياب معايير العدالة والإنصاف، وصادف ذلك للأسف ذكرى اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب. وكان قد تم اعتقاله على خلفية اتهامه بقتل رئيس مباحث قسم الجناين بالسويس في عام 2015م، وقُيدت الواقعة برقم 119 لسنة 2016م عسكرية السويس، ثم أحالته محكمة جنايات السويس العسكرية إلى المفتي في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2017م، وتمت الموافقة على حكم الإعدام في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017م، وتأكيد الحكم في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2017م. ثم حدث أن صرحت أسرة الشاب بأن السلطات المصرية أعدمته قبل النظر في الطعن المقدم أمام المحكمة العليا للطعون (العسكرية). وبحسب الأسرة، تعرض عبد الرحمن لفترة احتجاز لما يقارب الثلاث سنوات على خلفية التهمه المشار إليها، مع تعرضه خلالها للتعذيب وسوء الرعاية الطبية داخل محبسه، والإهمال الطبي الذي كاد أن يعرض حياته للخطر قبل تنفيذ هذا الإعدام وقبل استنفاد درجات التقاضي!
أضطررت لسرد مثل هذه التفاصيل القانونية لأوضح لكم كم من الأمور غير الطبيعية من الأساس تحدث في مصر، حيث حاكمت السلطات المصرية أكثر من 7400 مدني أمام المحاكم العسكرية، منذ إصدار السيسي لقانون في عام 2014م؛ لتوسعة نطاق اختصاص المحاكم العسكرية، وهذا ما علقت عليه منظمة هيومن رايتس واتش وقتها كالآتي:
حاكمت السلطات المصرية أكثر من 7400 مدني أمام المحاكم العسكرية، منذ إصدار السيسي لقانون في عام 2014م؛ لتوسعة نطاق اختصاص المحاكم العسكرية
"إن المرسوم الذي أصدره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 27 تشرين الأول/ أكتوبر يوسع اختصاص المحاكم العسكرية في البلاد، ويحمل خطر عسكرة الملاحقة القانونية للمتظاهرين وغيرهم من معارضي الحكومة. ويعمل هذا القانون الجديد الذي أصدره السيسي في غياب برلمان؛ على وضع جميع المنشآت (العامة والحيوية) تحت اختصاص القضاء العسكري لمدة عامين، كما أنه يوجه أفراد النيابة لإحالة الجرائم المرتكبة في تلك الأماكن إلى نظرائهم العسكريين، مما يمهد الطريق لزيادة كبيرة في المحاكمات العسكرية للمدنيين. وقد حاكمت محاكم مصر العسكرية، التي تفتقر حتى لما توفره المحاكم الطبيعية من ضمانات واهية لسلامة الإجراءات، أكثر من 11 ألف مدني منذ انتفاضة2011م (ثورة يناير المجيدة)".
إنَّ تنفيذ حكم الإعدام - يا سادة - بالشاب عبد الرحمن؛ حالة صارخة لغياب ضمانات الإجراءات القضائية والمحاكمات الطبيعية المتوازنة، ويستحضر مقاربة واجبة للحديث عن ملف العدالة الغائبة في مصر. فمنذ خمس سنوات تُكفَّن العدالة ويحُاك كفنها القرمزي بخيوطٍ قاسية من مراسيم وقوانين عدالة المنتصر، انطلاقا من شعاره الوحيد في معركة الحرب على الإرهاب والمقاربة الأمنية (وفقط)، والتي تدوس، بل قُل تدهس - وبلا طائلٍ أو رادعٍ أو خوفٍ من حساب - كل قيم العدالة والقانون وتشيعها إلى مثواها الأخير!
وفيما يذهب الاتجاه العالمي لنبذ عقوبة الإعدام، وهناك أكثر من 160 دولة عضو في الأمم المتحدة (بنُظم قانونية وتقاليد وثقافات وخلفيات دينية مختلفة) ألغت كلها عقوبة الإعدام أولا تمارسها، كما تحرص المفوضية السامية لحقوق الإنسان على الدعوة للإلغاء العالمي لعقوبة الإعدام؛ احتراما للطبيعة الأساسية للحق في الحياة، والمخاطرة غير المقبولة في تنفيذ أحكام بإعدام أبرياء، وخاصة في غياب العدالة القضائية والإجرائية المتوازنة، وهو المفهوم الذي يدفعنا للتمسك بمناشدة المجتمع المدني وكافة المنظمات المعنية بالدفاع عن الحقوق والحريات داخل مصروخارجها؛ للمطالبة المبررة والمشروعة بوقف عقوبة الإعدام في مصر (مصر الدولة العضو في الأمم المتحدة والمصادقة على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التعذيب والبروتوكولات الاختيارية)، وفي ظل استمرار تنفيذ أحكام بالإعدامات بالجملة طالت ما يقارب 32 شخصا ومنهم أحكام قضائية مطعون عليها، كقضية عرب شركس الشهيرة، وما شابها من عوار في احترام مسارات حق التقاضي ومواعيده. وهذا ما تواترت على رصده مختلف منظمات حقوق الإنسان لصدور أحكام إعدامات بالجملة في حق المئات، وفي غياب لضمانات المحاكمات العادلة وحقوق الدفاع الأساسية والحال كذلك وخاصة مع استمرار فرض حالة الطوارئ للمرة السادسة على التوالي، والتي من المقرر أن تبدأ منتصف الشهر الحالي، ولمدة ثلاثة أشهر، بالمخالفة للقانون والدستور.
لتنفيذ حكم الإعدام غير المنصف ضحايا كثر، ليس فقط المحكوم عليهم بالموت، خاصة مع شبهة البراءة، أو حتى في حال غياب نظام الإجراءات الصحيحة
ولعلنا ندرك أن لتنفيذ حكم الإعدام غير المنصف ضحايا كثر، ليس فقط المحكوم عليهم بالموت، خاصة مع شبهة البراءة، أو حتى في حال غياب نظام الإجراءات الصحيحة التي تستدعي تطبيق القاعدة الفقهية التي تعلمناها في السنة الأولى لكليات الحقوق: "ادرؤوا الحدود.. بالشبهات ما استطتعم.. فإن كان له مخرج (المتهم) فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"، وأن الشك يُفسر دائما لمصلحة المتهم، ولست هنا بصدد ممارسة دور الدفاع أو ممثل اتهام. ولكن هناك أيضا ضحايا لتنفيذ عقوبة الإعدام من أفراد الضحايا أنفسهم، وتصور شعورهم بالإحباط وعدم الإنصاف، وما يخلفه من مشاعر بالظلم والاضطهاد، وربما استدعاء لمشاعر الكراهية والرغبة في الانتقام. وقد تعرّض إيفان سيمونوفيتش، مساعد الأمين العام لحقوق الإنسان، لمفارقات تنفيذ حكم الإعدام ولضحايا غير مرئيين في كلمته خلال جلسة نقاش رفيعة المستوى حول عقوبة الإعدام، عُقدت على هامش أعمال الجمعية العامة بمقر الأمم المتحدة وأوضح قائلا: "مقارنة مع غيرها من أشكال العقاب، تؤثر عقوبة الإعدام على الصحة العقلية لأفراد أسرة المحكوم عليه (وخاصة الأطفال وأولياء الأمور)، وكذلك الأشخاص الذين يشاركون في الإجراءات القانونية أو تنفيذ الإعدام مثل أعضاء النيابة العامة، والقضاة والقائمين على التنفيذ".
لا بد من فتح المجال العام أمام نقاش مجتمعي جاد، وتحرُّكٍ فعّال نحو المطالبة الفورية بوقف تنفيذ عقوبة الإعدام في مصر
لذلك ومن أجل كل هؤلاء الضحايا، وإنصافا للدفاع عن الحق في الحياة، هذا الحق المقدس الذي يجب أن يعلو على كل تلك الذرائع الواهية، وأدوات مطوعيها، من أكفان ومراسيم بقوانين منحازه لصالح الأقوياء في معارك تثبيت حكم الديكتاتوريات، ومن أجل قيم الحق في العدالة والإنصاف، ولتحقيق الأمن المجتمعي في بلادنا، لا بد من فتح المجال العام أمام نقاش مجتمعي جاد، وتحرُّكٍ فعّال نحو المطالبة الفورية بوقف تنفيذ عقوبة الإعدام في مصر.