ألقت التطورات الميدانية العسكرية المتسارعة في سوريا بظلالها على مجمل التصورات السياسية حول مستقبل سوريا. فقد تعرضت قوى المعارضة العربية السنية لسلسلة من الهزائم؛ أفضت إلى خسارتها معظم المناطق التي سيطرت عليها خلال سنوات الثورة، وأصبحت محاصرة في جيب محافظة إدلب، والتي باتت توصف بـ"إدلبستان"، وينظر إليها كملاذ أخير للجماعات الإسلامية السنية المتطرفة والإرهابية.
وقد فشلت المعارضة العربية السنية بإقناع المجتمع الدولي (الأمريكي والأوروبي) باعتدالها، ليس بسبب تطرفها، وإنما بسبب الصورة النمطية الجوهرانية الراسخة في العقل الاستشراقي والاستراتيجي الغربي المتعلقة بإسلام العرب باعتباره ينطوي على كينونة دينية قيمية إرهابية متطرفة عنيفة؛ تشكل نقيضا لقيم الغرب الليبرالي الديمقراطي، بينما تمكن الأكراد، ومعظمهم من السنة، من نسج علاقات مع القوى الدولية والإقليمية، وتقديم أنفسهم كشركاء موثوقين في "الحرب على الإرهاب (العربي السني)". وإذا كانت طموحات الثورة السورية التي يشكل العرب السنة مكونها الأساس تقوم على إسقاط النظام، فإن طموحات أكراد سوريا لا يتجاوز إقامة كيان كردي يتمتع بحكم ذاتي على المدى القريب؛ قد يفضي إلى دولة مستقلة على المدى الأبعد.
عندما تحولت أولويات السياسة الدولية الأمريكية الأوروبية في سوريا من دعم الثورة وإسقاط نظام الأسد إلى حرب الإرهاب والقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية"، أصبحت مسألة رحيل الأسد من الماضي، وتقلص الدعم السياسي والعسكري للمعارضة العربية السنية التي وجدت نفسها متهمة بالتطرف والإرهاب حتى تبرهن على براءتها المستحيلة، عبر الانخراط دون ضمانات في محاربة من يوصم من طرف الأمريكيين والأوروبيين بـ"الإرهاب". وقد تصاعدت وتيرة تقليص دعم فصائل المعارضة العربية السنية وصولا إلى إلغائه توقفه تماما. وأصبح الأكراد الشريك الموثوق في حرب الإرهاب، رغم أن بعض مكوناتهم (كحزب العمال الكردستاني) موصوم بـ"الإرهاب" دوليا، لكن القوى الأمريكية والأوروبية تغاضت عن ذلك؛ نظرا لإمكانية تطويعهم وسهولة التعاطي مع طموحاتهم الواقعية المشروعة المتواضعة. وبهذا وجد الأكراد أنفسهم في صداقة وشراكة مع كافة أطراف الصراع، الدولية والإقليمية والمحلية، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران والنظام السوري، باستثناء تركيا.
إذا كانت طموحات الثورة السورية التي يشكل العرب السنة مكونها الأساس تقوم على إسقاط النظام، فإن طموحات أكراد سوريا لا يتجاوز إقامة كيان كردي يتمتع بحكم ذاتي على المدى القريب؛ قد يفضي إلى دولة مستقلة على المدى الأبعد
منذ تشكيل التحالف الدولي في 14 أيلول/ سبتمبر 2014، للقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية" في إطار تحولات الحرب على الإرهاب، أصبح الأكراد الشريك الموثوق للتحالف الدولي، باستثناء الأتراك الذين خشوا من خلق كيان كردي يهدد الأمن القومي التركي. وأسفرت تطورات العلاقات الأمريكية الكردية في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 عن تأسيس تشكيل جديد تحت اسم "قوات سوريا الديمقراطية". وقد حرصت التسمية الأمريكية بداية على التعمية على التوجهات القومية والأيديولوجية للقوة الجديدة التي تتمتع بعلاقات مع النظام السوري، وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني وسلالاته العديدة، أمثال "قوات الحماية الشعبية"، وهي قوات كردية تابعة لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي"، و"قوات حماية المرأة"، وهي فرع من قوات الحماية الكردية. أما بقية القوى المشاركة ضمن"قوات سوريا الديمقراطية"، فهي فصائل تجميلية من أقليات إثنية ومجموعات قبلية، أمثال "قوات الصناديد"، وهي مليشيات عشائرية يقودها حميدي الدهام، شيخ عشيرة شمر، و"المجلس العسكري السرياني"، و"غرفة عمليات الفرات"، و"تجمع ألوية الجزيرة".
بقية القوى المشاركة ضمن"قوات سوريا الديمقراطية"، فهي فصائل تجميلية من أقليات إثنية ومجموعات قبلية
أغرت ديناميكية الصراع وتعقيدات المشهد الأكراد إلى الإعلان عن تأسيس"الاتحاد الفيدرالي الديمقراطي لروج آفا" (شمال شرق سوريا) في 17 آذار/ مارس 2016، لكن تبدل التحالفات وبروز تفاهمات روسية تركية إيرانية حول المسألة السورية؛ جعل من حلم الأكراد أشبه بكابوس. فبعد أن كان النظام السوري متحالفا مع الأكراد ضد تنظيم الدولة في معارك القامشلي والحسكة وحي الشيخ مقصود الحلبي وغيرها، من المناطق باتت ذات المناطق مسرحا لمعارك بين الطرفين، الأمر دفع أنقرة إلى تنفيذ عملية "درع الفرات" في آب/ أغسطس 2016 لمواجهة مشروع الدويلة الكردية على حدودها الجنوبية والتي باتت الأولوية التركية في سوريا، إلى جانب إبعاد خطر "تنظيم الدولة" عن حدودها ومدنها الحدودية. وقد حققت هذه العملية خلال سبعة أشهر جملة من الأهداف التركية، في مقدمتها منع التواصل الجغرافي بين "الكانتونات" الكردية في الشمال السوري وتأمين الحدود مع سوريا والسيطرة على مساحة جغرافية واسعة.
بعد أن تمكنت أمريكا وقوات التحالف الدولي، إلى جانب القوات الكردية، من طرد تنظيم "الدولة الإسلامية" من مدينة الرقة، في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، أعلنت الولايات المتحدة في 14 كانون الثاني/ يناير 2018، عن تأسيس جيش كردي بدعوى حراسة الحدود، الأمر الذي فجّر أزمة حادة مع تركيا التي أعلنت، في 20 كانون الثاني/ يناير 2018، إطلاق عملية عسكرية في مدينة عفرين بشمال غربي سوريا باسم "غصن الزيتون"، بعد أن استدعت وزارة الخارجية التركية القائم بأعمال السفارة الأمريكية في تركيا في العاشر من كانون الثاني/ يناير، وطالبت إياه بتوضيحات بشأن تلك القوة، رافضة وجودها الذي سيضر بأمنها القومي. وقد تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية في 17 كانون الثاني/ يناير 2018 عن تصريحاتها حول تشكيل جيش من مليشيا قوات "سوريا الديمقراطية" في سوريا، لنشرها على الحدود بين تركيا والعراق.
قد تكون وحدات حماية الشعب شريكاً محورياً لواشنطن، لكنها في الوقت نفسه شريك إشكالي أيضاً؛ لأنها الذراع السوري المسلح لحزب العمال الكردستاني، الناشط في تركيا
باتت مخاوف الأكراد مؤكدة بعد سلسلة من التحولات في طبيعة التحالفات الدولية والإقليمية. ففي 4 حزيران/ يونيو 2018، أعلنت تركيا والولايات المتحدة عن وصولهما لاتفاق حول تطبيق خارطة طريق لتعزيز السلم في مدينة منبج السوريّة
خيارات الأكراد أصبحت محدودة وأكثر تواضعا. أما قرار الانسحاب الأمريكي المبهم والتفاهمات مع روسيا، فقد تعزز من الإسراع بالتفاوض بوساطة الروس نظرا لموقفهم القريب من الرؤية الأمريكية حول مستقبل سوريا
خلاصة القول أن مصائر الكرد في سوريا لا يشبه مصير العرب السنة، ذلك أن طموحاتهم مختلفة وبراغماتية وواقعية. فالموقف الرسمي لكرد سوريا لا يصل حد الانفصال والمطالبة بالاستقلال، وقد احتفظ الكرد بصلات مع النظام السوري، وصداقة مع الروس، وعلاقات مع إيران، وتقتصر مطالبهم عقب التحولات على مسألة الاتفاق مع دمشق بشأن الحكم الذاتي، إلا أن ذلك يتطلب تذليل الخلافات الكردية الداخلية العميقة التي بلغت حد القتال بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، نظرا للاختلافات الأيديولوجية والبرامجية والارتباطات الدولية والإقليمية المتضاربة، لكن المؤكد أن حلم إنشاء كيان كردي مستقل أصبح مستحيلا، بينما تحقيق حكم ذاتي بات ممكنا.
إزالة اللافتات العربية في إسطنبول
نهاية هادئة للجبهة الجنوبية في سوريا