لم يكن الاحتجاجُ الاجتماعي سلوكا حديثاً في الممارسة الاجتماعية المغربية، بل أصبح، منذ السنوات الأولى بعد الاستقلال (1955-1956)، أسلوبا اجتماعيا يتمُّ اللجوء إليه كلما دعت الضرورة للتعبير عن المطالب الجماعية، أو الاعتراض على سياسات الدولة، أو التضامن الاجتماعي والنقابي، أو التنديد بمواقف وإجراءات معينة. ولأن المغرب عرف مبكرا تعدديةً نقابية وسياسية - بغض النظر عن طبيعتها ومآلات تطورها - فقد ترسخت فكرة الاحتجاج في الثقافة الاجتماعية والسياسية، وغدت أداة لإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، كلما طالها الاختلال، أو تقوّت السلطة وأضرت سياساتها بأوضاع الناس.
ما هو لافِت في احتجاجات المغرب في السنوات الأخيرة انتقال مراكز القوة في اندلاعها من الحواضر والمدن الكبرى إلى المدن المتوسطة والصغيرة، أي المجالات الترابية غير الموسومة بالكثافة السكانية الكبيرة جدا، وغير المؤثرة في النسيج الاقتصادي والتجاري والمالي، وحتى السياسي والإداري، أي ما يمكن تسميته "الأطراف" (les peripheries).. ففي بحر سنتي 2016 و2017، والشهور الأولى من 2018، تصدرت احتجاجات الأطراف (الريف، جرادة، زاكورة، أحواز بني ملال..) خريطة الحراك على الصعيد المغربي. ويمكن القول إنها خطفت الأضواء، ودفعت الحواضر والمدن الكبرى، أو على الأقل فئات واسعة من سكانها ونخبها، إلى الانخراط في الديناميات التي فتحتها احتجاجاتها، إن على مستوى الشعارات والمطالب، أو على صعيد التوترات التي وسمت علاقتها بمؤسسات الدولة الأمنية وغير الأمنية.. نحن إذن أمام أنماط جديدة من الاحتجاج الاجتماعي؛ تقودُه المجالات الترابية المهمشة في جغرافية الحواضر والمدن المغربية.
لافِت في احتجاجات المغرب في السنوات الأخيرة انتقال مراكز القوة في اندلاعها من الحواضر والمدن الكبرى إلى المدن المتوسطة والصغيرة
مما هو لافِت أيضا في احتجاج الأطراف، تركّز شعاراته ومطالبه حول الملفات الاجتماعية، وما يرتبط بها ويتفرع عنه.. ففي الحقيقة، لا تسمح القراءة الموضوعية لمطالب
الاحتجاجات في المدن المشار إليها أعلاه بوجود شعارات أو نوايا سياسية لأصحابها أي للمدافعين عنها.. صحيح أن كل مطلب من هذه المطالب ينطوي على بُعد سياسي؛ لأنه إما يرتبط بفشل سياسة معينة، أو يدعو إلى صياغة سياسة بديلة لتحقيقه، وهو في الحالتين معا يظل ضمن دائرة السياسة، وإن لبِس لبوسا اجتماعية (مطالب). ففي
حراك الريف، أو جرادة وزاكورة، ظلت لغة الاحتجاج واحدة، ولم تكن الشعارات متباينة على مستوى الجوهر، وإن اختلفت على صعيد الشكل.. ظلت مطالب المحتجين محصورةً في ما يهُمُّ شروطَ عيشهم، وسُبل تحقيق الحياة الكريمة لهم ولذويهم، ومتطلبات الشعور بأنهم في بلد يؤوي الجميع، ويتسع للكل على قاعدة التكافؤ والعدالة في اقتسام ثروات البلاد.
ظلت مطالب المحتجين محصورةً في ما يهُمُّ شروطَ عيشهم، وسُبل تحقيق الحياة الكريمة لهم ولذويهم، ومتطلبات الشعور بأنهم في بلد يؤوي الجميع
ينطوي
احتجاج الأطراف في المغرب الراهن على بُعد لافِت آخر؛ لا يقل أهمية عما أشرنا إليه، يتعلق بالشعور بوجود نَقص (deficit) في مجال الوساطة والتمثيلية، وعدم الثقة في الأدوار المنوطة بالأحزاب والتنظيمات السياسية.. ففي
حراك الريف تحديدا، وحتى بالنسبة للمدن المغربية الأخرى، تلمس في تصريحات الناس وردود فعلهم أن من يمثلونهم محليا أو وطنيا تخلوا عنهم، وجنحوا إلى ما يحقق مصالحهم أو مصالح من هم أقرب إليهم سياسيا واجتماعيا.. وأن السياسة التي تهدف إلى إفراز نخب تمثل الناس وتدافع عن تطلعاتهم في علاقتهم بالدولة ومؤسساتها؛ لا تعدو أن تكون لعبة، يتبارز في حلبتها فرسان، لا يهمهم تمثيل الناس (الجسم الانتخابي)، بقدر ما تهمهم الغنيمة والثراء بغير حق.
يمكن أن نُكثر من تعداد الجوانب اللافتة في احتجاج الأطراف في المغرب الاجتماعي الراهن، غير أن الاكتفاء بما أشرنا إليه أعلاه، يُحفِّزنا على طرح سؤال الأسئلة: وماذا بعد احتجاج الأطراف؟ الآن وقد نال متصدرو حراك الريف "جزاءهم القضائي"، وخمدت جذوة متظاهري جرادة وزاكورة، واستخلص من أراد أن يستخلص من المحتجين المحتملين والمرتقبين ما يكفي من الدروس.. ماذا عسى أن يفعل كل هؤلاء؟ الجواب كما قالت العرب: "ما هكذا يا سعد تورد الإبل". إننا في حاجة إلى مغرب يتسع للجميع، يتقوى بالجميع، ويشارك في تقوية بنائه الجميع. وكي نبني مغرب الجميع، نحتاج إلى إنصات الجميع للجميع، وتكاتف الجميع مع الجميع من أجل تحقيق مشترك الجميع.
في حال عدم استدراك ما حصل بالحوار وبالبحث عن المشترك، نتوقع أن تستمر الاحتجاجات بشكل أو بآخر. فقد تخمد وتدخل مرحلة الكمون، لكن لا تلبث أن تظهر من جديد هنا أو هناك
لذلك، وفي حال عدم استدراك ما حصل بالحوار وبالبحث عن المشترك، نتوقع أن تستمر الاحتجاجات بشكل أو بآخر. فقد تخمد وتدخل مرحلة الكمون، لكن لا تلبث أن تظهر من جديد هنا أو هناك، لسبب موضوعي هو أن هناك مصادر فعلية لاندلاعها، وتجدد اندلاعها. يتعلق المصدر الأول بهرم الأعمار في المغرب، حيث تمثل السكن دون سن الثلاثين قرابة السبعين في المئة، وهي القاعدة الأكبر والأوسع، والأكثر ضغطا على الحياة العامة، فهذه الشريحة الوازنة من المغاربة، يهمها بالدرجة الأولى، ولعل ذلك أهم حقوقها، أن تشعر يأن لها أقراناً تناظرهم في الحقوق والواجبات، سواء في العيش الكريم، أو في الحرية والعدالة الاجتماعية. ثم إنها فئة كان من نصيبها أن وُلدت في زمن ثورة المعلومات، وحرية تدفق منسوبها، وأن تجد في الإمكانيات الهائلة لهذه الثورة ما يُسنِد احتجاجاتها، ويعرف بمطالبها، ويعزز تسويق نضالاتها. وهي كلها، في الواقع، ممكنات لم تكن متوفرة لغيرها من الأجيال السابقة.
ما جرى في الريف، ويجري في جرادة، وبينهما في زاكورة، وأحواز بني ملال، والقادم في علم الله.. يحتاج إلى إجراءات شُجاعة وصادقة.. وفي كل الأحوال يبقى الإنصات والحوار والحلول الشاملة والمستدامة، وإن على مراحل، هي المداخل الناجعة لإعادة ربط الأطراف بالمركز وتقوية اندماجها الوطني، وتعزيز ولائها للدولة، بوصفها بيتاً للعيش المشترك.