كيف حصل ذلك؟ سؤال من السهل الإجابة عنه لمعرفة سبب هزيمة
الثورة في
العالم العربي، فالأحداث لم تخف نفسها، وتكالبت الدولة العميقة، بما تعنيه من مراكز فساد، والقوى المافياوية الإجرامية، الممثلة بأجهزة المخابرات وبعض الفرق والألوية في ما يسمى بـ"الجيوش العربية"، مع القوى الدولية والإقليمية ذات المصلحة في عدم حصول تحولات في العالم العربي وحرفها باتجاهات أخرى.
لماذا حصل ذلك؟ هذا هو الملعب الذي يجب أن تجري فيه خيول أفكارنا، ليس فقط للإجابة عن سؤال لماذا انهزمت الثورات العربية، وإنما لإيجاد صيغة نحفظ من خلالها بعض التوازن للمجتمعات العربية؛ الخارجة من أتون حرب وجودية طاحنة شنتها عليها القوى سالفة الذكر، وترغب في دفع المجتمعات العربية إلى أسفل نقطة للضعف البشري، حتى لا تقوم لها قائمة إلى عقود مديدة؛ كي لا تعكر مزاج الأنظمة الحاكمة وسلالتها في السلطة.
قد يقول أحدهم، إنه من الظلم أن نطلب من الناس المنهكين والمسحوقين إعادة إنتاج الثورة من جديد، وهم ما زالوا يمسحون الدماء على وجوههم، وما زالت عائلات كثيرة لم تعرف مصائر أولادها، وما زالوا لم يتعافوا بعد من الجوع الذي حطم أحشاءهم وكرامتهم. ثم إن شريط تخلي العالم عنهم وتركهم للموت يفترسهم؛ ما زال لم يعبر على شاشة الحدث بعد، فكيف نطلب منهم ما لا يستيطعون فعله في ظروفهم الحالية وواقعهم المأساوي؟!
رغم صحة هذا المنطق الظاهرية، إلا أنه يطوي عن قصد حقائق مهمة مقابلة، ولعل أولى تلك الحقائق أن الثورة كما كانت عشية انطلاقها، كذلك هي اليوم، وربما أكثر إلحاحا.. خيار إجباري ومفروض، فكل لحظة تهدئة أو سكون أو تراجع هي بالمقابل عند الطرف الآخر تكريس للهزيمة، وحق مكتسب يستطيع من خلاله غل سكينه في قلب المهزوم بالقدر الذي يشاء هو.
الحقيقة الثانية، أن الأنظمة التي شنت ثورات مضادة على شعوبها ليست في حال أفضل، وهي منهكة وغارقة في الضعف، وقد جرى استنزافها بالفعل، وانتصاراتها على شعوبها لم تكن في الغالب بفضل قوّة تتميز بها، بقدر ما هو نتاج ظروف من خارج موازين القوى الطبيعية بين الطرفين، إما بسبب استخدامها موارد الدولة، أو توفر آلة إعلامية هائلة لها، أو نتاج سلبية وتخاذل فئات ونخب، ودائما نتيجة تدخل الخارج لصالحها، بالمال والسلاح.
الحقيقة الثالثة، رغم تعب المجتمعات العربية، إلا أن محفزات الثورة ودوافعها ما زالت موجودة وبقوّة، فإذا كانت الثورات قد انطلقت طلبا للحرية والكرامة والعدالة، فقد أضيف لتلك الحمولات مئات آلاف القتلى ومثلهم في السجون، فضلا عن مستويات الإفقار العالية ونسب البطالة المهولة، وهذا الأمر ينطبق على مجتمعات سوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن، وحتى الدول العربية الأخرى التي شهدت حراكات سلمية، وإن كانت قد نجت من القتل والتدمير، إلا أنها مصابة بالفقر والبطالة وتنمر الفاسدين.
إذن، حتى لو أراد الجيل العربي الحالي التراخي عن الثورة، فإن الظروف الموضوعية تدفعه دفعا إليها بحكم الواقع الذي يصعب التعايش معه بل يستحيل، فكيف يتعايش السوري مع قاتل ابنه ومدمّر بيته وسارق عفشه؟ كيف يتعايش المصري مع سارق حلمه في الحرية والحياة الكريمة ويزاود عليه في الوطنية؛ ويرى كل من في بر مصر خائنا مشكوكا بأمره، وغير السخرة لا تليق به؟
علينا أن نعترف بأن الجزء المسلح من الثورة هو الذي انتهى، وانهزم أيضا؛ لأنه في الأصل طارئ، ولأنه ملعب الأنظمة وقد أدخلونا إليه عنوة ليصلوا إلى هذه النتائج. ومع صعوبة العمل السياسي مع هذا النمط من الأنظمة ومقاومة إغراء إسقاطها بقوة السلاح، إلا أن هذه التجربة يجب إسقاطها بالفعل من أي تفكير سياسي في كيفية مواجهة أنظمة القمع العربية والنيل منها في ساحة الصراع المفتوحة.
ثمة مؤشرات عديدة على أن ثورة الجيل العربي الحالي ما زالت ممكنة ومستمرة، رغم ألم الجراح ونزفها المستمر. فالنقد الذاتي للهزيمة ومسبباتها أمر مبشر، كما أن استمرار حالة الرفض للخنوع للأنظمة التسلطية ورفض قبول تأهيلها وشرعنتها؛ هو تحفظ في مواجهة الهزيمة إلى حين إعادة بناء عدة المواجهة الجديدة، ولن يطول الأمر كثيرا ما دامت ماكينة تهرؤ الأنظمة تعمل باستمرار، وما دام جيل يبحث عن صياغة ثورية تستدرك كل أخطاء الماضي وتتجاوزها.