في مؤشر هام تتفاعل أزمة جديدة في منطقة الخليج عنوانها توتر العلاقات السعودية الكندية التي بدأت بتغريدة للسفارة الكندية في المملكة عبرت فيها عن استيائها من وضع نشطاء حقوقيين. الردّ السعودي كان فوريا وتصعيديا عبر مجموعة من الإجراءات والقرارات التي تضمنت التعبير عن وصف الممثل الكندي بالسعودية بأنه شخصية غير مرغوب فيها.
سياق الأزمة الجديدة هو أخطر ما في الأزمة نفسها وهو سياق يتميز بالخصائص التالية:
•تعدد الجبهات المفتوحة سعوديا وعربيا في اليمن وفي سوريا وفي العراق وفي لبنان وفي ليبيا وفي غيرها من الجبهات الساخنة الأخرى داخل النطاق العربي وهو ما يجعل من الداخل منطقة هشة غير قادرة على المواجهة والصمود خارجيا.
•تعدد الأطماع الإقليمية في المنطقة العربية خاصة منها الإيرانية والصهيونية اللذين يعتبران أكبر المستفيدين من الحرائق المشتعلة ومن الأزمات التي ساهمت طهران وتل أبيب بشكل فاضح ومعلن في إشعالها مستفيدة من تشرذم القرار العربي.
•تجدد الأطماع الدولية وخاصة منها الروسية والأمريكية والأوروبية التي عادت بقوة عسكرية مباشرة لإعادة الإشراف والاستحواذ على ثروات المنطقة وممراتها الحيوية ومعابرها الاستراتيجية.
•تخبط الأنظمة العربية وتخبط قرارتها التي لا تسعى إلا إلى إنقاذ نفسها ولو كان ذلك على حساب أنظمة أخرى أو شعوب أخرى أو دولة أخرى بشكل يعكس قصر الرؤية وغياب الاستراتيجية البعيدة كما هو الحال في الأزمة التي عبر عنها حصار قطر الأخير.
•انهيار شبه كامل وشلل كبير لمنظومات العمل المشترك عربيا واسلاميا بشكل فاقم من العجز على تجاوز الأزمات بل وساهم في إذكائها وتمددها.
في هذا السياق العام تتنزل الأزمة الأخيرة التي تتميز بأنها أزمة دولية بين دولة عربية ذات ثقل إقليمي وعالمي ودولة غربية لا تقل عنها ثقلا دوليا. لن تكون هذه الأزمة الجديدة في صالح المنطقة بشكل عام وإن كانت تصب في صالح بعض المكونات الإقليمية وخاصة إيران من جهة وإسرائيل من جهة أخرى وهي الدول التي تراهن دائما على إضعاف الموقف العربي بما يصب في مصلحتها بشكل مباشر.
لكن قراءة الموقف الكندي من ملف حقوق الإنسان في السعودية وفي دول الخليج أو دول المنطقة العربية بشكل عام يفرض جملة من الملاحظات التي تضع هذا الموقف في سياقه الحقيقي.
أولا لم تتردد كندا في الإشارة إلى وضعيات حقوقية بعينها في حين غضت الطرف عن وضعيات أخرى سواء داخل السعودية أو داخل الدول العربية الأخرى. لم تشر الدبلوماسية الكندية إلى وضعية الشيوخ والدعاة المعتقلين في انتقاء واضح للملفات التي يراد إثارتها. ثم إن المنطقة العربية التي تعج بالمذابح المفتوحة ضد المدنيين وخاصة في سوريا واليمن لم تكن على لائحة التنديد الكندية وهو ما يشير إلى أن الملف لا يعدو أن يكون انتقائيا بالدرجة الأولى. فمنذ غزو العراق واحتلاله شاركت كندا في كل الحروب على المنطقة العربية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر مما يلقى بضلال كثيفة ويضع نقاط استفهام كثيرة على الموقف الكندي الأخير.
أما من الجهة العربية وهو ما يهمنا في هذا العرض الموجز فإنما يتلخص في انفتاح المنطقة العربية وانكشافها على الحملات الإعلامية والدبلوماسية الغربية بشكل عام خاصة بعد دخول الولايات المتحدة على خط الأزمة وتنديدها بوضعيات حقوق الإنسان في السعودية وفي الدول العربية بشكل عام.
هذا الانكشاف الكبير الذي يشكل اليوم أبرز مظاهر الضعف والوهن في السياسة العربية إنما يجد جذوره في الصراعات العربية البينية التي تتجلى أوضح ما تتجلى في حصار قطر أو في تمدد الحرب الأهلية في سوريا واليمن مثلا. لقد فشل النظام الرسمي العربي منذ عقود في ترميم البيت الداخلي وفي حسم الصراعات والمغامرات الفردية التي تحولت إلى مفخخات دورية تنفجر باستمرار في وجه كل محاولات الإصلاح أو الوساطة أو ترميم البيت العربي أو تأمين أحد مكوناته الإقليمية.
يدرك صاحب القرار العربي والخليجي بشكل خاص أن الهدف من كل المناورات السياسية والعسكرية التي دشنتها بشكل مكشوف حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران إنما تهدف رأسا إلى ابتلاع المنطقة العربية وإلى إعادة هندسة حدودها السياسية وتحديد حجم حركة الفواعل داخلها بشكل يضمن أولا وقبل أي شيء مصالح القوى المتحكمة فيها وفي قرارها منذ الحرب العالمية الثانية بما في ذلك مصالح الكيان الصهيوني.
بناء عليه فإن الأزمة الحالية كما هو الأمر مع أزمة حصار قطر أو أزمة حرب اليمن أو الحرب الأهلية في سورية إنما تتطلب أول ما تتطلب إعادة قراءة الواقع الجديد ومراجعة كل المبادرات السابقة بشكل يوقف النزيف الكبير الذي تتعرض له منطقة الخليج والمملكة السعودية بشكل خاص.
لن تنجح المنطقة الخليجية في تجاوز الوضع الحرج الذي تمر به دون البدء أولا بتفكيك أزماتها الداخلية عبر المرور إلى حل سياسي باليمن الذي تحول إلى حرب استنزاف حقيقية تلتهم يوميا مليارات الدولارات وتنذر بكارثة إنسانية حقيقية لن تقتصر على حدود اليمن فقط. لا يقل قيمة عن تسوية حرب اليمن إنهاءُ حصار قطر بشكل يحفظ سيادة الدول الأعضاء وإعادة بناء مجلس التعاون الخليجي بشكل يجعل منه تكتلا إقليميا فاعلا وقادرا على الوقوف في وجه كل أنواع التهديدات الدولية والإقليمية.
تبقى هذه المبادرات محكومة بالنطاق الفردي الذي يطغى على المنطق السياسي العربي بما هو نزعة فردانية مطلقة لا تحدها مؤسسات ولا قوانين وهو ما يجعل من فرص إنقاذ المنطقة من الفوضى القادمة صعبة التحقيق في الظرف الحالي. لكن مزيد التشنج في العلاقات العربية البينية وفي العلاقات العربية الدولية سيقود حتما إلى فرض إحياء شروط تغيرات سياسية أو اجتماعية عميقة قد تسرّع بإعادة تفعيل الحراك الشعبي القاعدي ذي المطلب الاجتماعي الذي اندلع في تونس منذ سبع سنوات.