وأخيرا دخلنا عصر الشركات التريليونية. قبل نحو أسبوع عبرت شركة أبل حاجز التريليون دولار، وهي أول شركة في الدنيا تصل قيمتها السوقية إلى هذا المبلغ المهول. وقد نرى شركات أخرى تلحق بها في المستقبل القريب.
ولكن ما السر الذي يدفعنا نحن عملاء هذه الشركات أن نهب لشراء منتجاتها ورفع أثمانها بهذا الشكل المخيف؟ أقول "مخيف" لأننا أمام حالة اقتصادية جديدة تقودها الرأسمالية المعلوماتية Data Capitalism، التي صارت توجد لنا شركات جديدة بسرعة مذهلة سرعان ما تبسط هيمنتها الاستثنائية على حياتنا. وصرنا نرى أيضا بأم أعيننا كيف أن الشركات هذه تحول القطاعات الاقتصادية من حال إلى آخر، وكيف أنها تغير في بنية ونسيج المجتمعات التي نعيش فيها. التواصل، والنقل، والتصوير، والقراءة، والسمع، والمشاهدة، والشراء، والبيع، والتسوق، والتعليم، والنقود، والماكينة، والحرب، والخزن إلى آخره من النشاطات الإنسانية التقليدية جرى خلخلتها وأحيانا إزاحتها.
نحن نمارس أسلوب حياة مختلفا في كثير من المضامير. وهذا الأسلوب أساسه المعلوماتية، أي جمع كم هائل من المعلومات وخورزمتها، أي وضعها بصيغ معادلات خوارزمية لتنفيذ عمليات وتسلسلات منطقية. ولأننا نقوم بنشاطات كثيرة جدا كبشر، هناك طلب متزايد لجمع المعلومات وكذلك لتأسيس شركات خوارزمية جديدة لتنفيذ هذه النشاطات، حسب متطلبات عصر المعلوماتية الذي نحن فيه.
محال بيع الكتب والأدوات الموسيقية بدأت بالانقراض وحلت محلها شركات خوارزمية. والشوارع الرئيسية في الغرب المزدانة بالأسواق الكبيرة والمحال الفخمة، أخذت تحتاط كثيرا من شركات خوارزمية أمثال "أمازون" وغيرها. الصحافة كصناعة صارت على محك. أما عن التغيرات التي طرأت على خدمات النقل بسيارات الأجرة، فحدث ولا حرج.
هناك سباق حثيث لتحويل أي نشاط لنا وفي أي مضمار إلى تطبيقات ومعادلات خوارزمية. وهناك منافسة شديدة لتأسيس شركات (تطبيقات) جديدة لخلخلة كل النشاطات التقليدية، التي تعودنا عليها قبل بزوغ فجر الثورة الخوارزمية في نهاية القرن الـ20 ومقبل القرن الـ21. بعض النشاطات المهمة والأساسية جرى احتكارها من قبل الشركات الخوارزمية الكبيرة التي هي في طريقها إلى سقف التريليون دولار.
ويبدو من الوضع الحالي أن كسر هذا الاحتكار من الصعوبة بمكان. والرأسمالية تنشد المنافسة وتنبذ الاحتكار، وهذا يقع ضمن صلب النظريات التي تستند إليها. ولكن هذا ليس الحال أبدا مع الشركات الكبيرة التي صارت بمنزلة وحوش مفترسة تلتهم (تشتري) أي وليد جديد قد ترى فيه منافسا لها في المستقبل. لنأخذ "جوجل" كمثال. هذا العملاق الخوارزمي يسمح لنا باستخدام ماكيناته الذكية للبحث والقيام بنشاطات كثيرة و"مجانا". وضعت كلمة مجانا بين علامتي التنصيص لأن في واقع الأمر نحن الذين نقدم خدمة كبيرة ومجانا لـ"جوجل" كل مرة ننقر على الموقع لاستخدامه. بواسطتنا ومن خلال خدماتنا المجانية وصل "جوجل" إلى ما هو عليه. نحن المستخدمون صرنا جزءا مهما من المصادر (المواد الأولية) التي يعتمدها "جوجل" في جمع المعلومات وتأليف الخوارزميات. ولأن "جوجل" شأنه شأن الشركات الخوارزمية الكبيرة يحتكر كثيرا من المعلومات، ويمتلك التكنولوجيا الخوارزمية لتحويلها إلى معادلات وتسلسلات منطقية، صارت سطوته فوق المؤسسات وحتى الحكومات.
لا أظن في إمكان دولة بمفردها مقاومة "جوجل". عندما عبر "جوجل" الخطوط الحمراء في طريقة تناوله للمعلومات في أوروبا الغربية، تطلب الأمر تضافر دول الاتحاد الأوروبي برمتها لفرض غرامة كبيرة عليه. هل ستبقى الأمور على هذا الحال الذي فيه تحتلنا شركات خوارزمية كبيرة ونحن لا حول ولا قوة لنا؟
كل ثورة صناعية جديدة مثل الثورة الخوارزمية لا بدّ أن يتم احتكارها من قبل مكتشفيها ومطبقيها. وما نلاحظه اليوم من تمكن عدد قليل من الشركات من السيطرة على الرأسمالية الجديدة المتمثلة بالمعلوماتية، حدث للثورات الصناعية السابقة وفي طريقه أن يحدث للثورة الجديدة التي صارت قاب قوسين أو أدنى، وهي ثورة الذكاء الاصطناعي. ولكن ما يميز الثورة الرقمية عن سابقاتها هو السرعة المذهلة التي يصعد فيها نجم الشركات التي تنجح في تطبيقاتها الخوارزمية. والميزة المهمة الأخرى تتعلق بسرعة نقل التكنولوجيا، حيث بدأنا نشاهد في السنين الأخيرة شركات فتية نشطة وناجحة تعمل ضمن نشاط مماثل في أكثر من دولة ومنطقة.
لنأخذ "أوبر" كمثال. عندما ظهرت هذه الشركة للوجود، توقع الكثيرون أن هيمنتها وسطوتها ستجعلها في خانة الشركات العملاقة الأخرى في غضون فترة قصيرة. "أوبر" وغيرها من الشركات الفتية الناشئة لم تستطع احتكار تطبيقاتها. هناك من يقدم خدمة "أوبر" في الهند مثلا وينافسها لا بل يزيحها. لا أعلم إن كان القراء الكرام على علم بشركة "أولا" Ola الهندية التي بدأت تنافس "أوبر". وأظن هناك تطبيقات مثيلة لـ "أوبر" في كثير من الدول؛ وهذا معناه أن طريق الهيمنة الذي كان مثلا معبدا أمام "جوجل" لم يعد متاحا للشركات الخوارزمية الناشئة. مهندس خوارزميات من الهند أو مصر أو السعودية أو غيرها من البلدان، قد يبتكر تطبيقات مماثلة أو أفضل مما لدى الآخرين، كل ما يحتاجه هو البيئة الاقتصادية الحاضنة من رأسمال وتشريعات تساعده لتحويل التطبيق الخوارزمي الذي اخترعه إلى شركة.
عن صحيفة الاقتصادية السعودية