إن كان القرن العشرين عرف بزمن التحرر العالمي والقضاء على الاستعمار بصورته القديمة، رغم فشله في تحرير شعب فلسطين، فإن التاريخ سيذكر أن الربع الأول من القرن الحادي والعشرين اتسم بظهور شخصيات يعود أصلها لقرون مضت، فقد طل علينا نوع جديد من البلطجة والعنجهية، وإساءة استخدام السلطات وانتهاك
حقوق الإنسان والمواثيق الدولية كافة.
لقد عرفت شمال أمريكا ظاهرة رعاة البقر (Cowboy) ذلك الشخص الذي يخرج على حصانه لرعاية الأبقار، ولكنه اتسم في ذلك الوقت بأنه الشخص الذي يجوب الأرض يمينا ويسارا، ينازع جيرانه على حقوق الرعي، بل ويحاربهم ولا مانع لديه من اغتصاب حقوقهم، فالمحرك الوحيد له هو البقاء ولو على حساب الآخرين.
لم يغب ذلك الكاوبوي عن الغرب وتحديدا عن شمال أمريكا، ولكنه انتقل من المراعي ليسكن قصور السياسية. فأغلب رؤساء الولايات المتحدة مارسوا ذلك الدور، إن لم يكن جميعهم، إلا أن ما نراه اليوم هو نوع جديد من رعاة البقر، نوع انتشر على الساحة، ظهر في الولايات المتحدة وامتد حتى عم الشرق الأوسط، وهذه ليست مصادفة.
إن المتابع لتحركات
ترامب في الشرق الأوسط وحربة التجارية على أوروبا وكندا والمكسيك والصين وتركيا، وموقفه من الكيان الصهيوني، وضرب آخر منافذ الحياة للشعب الفلسطينى (الأونروا)، ووقوفه بجانب النظم العربية الديكتاتورية، يعلم أنه لو اكتملت تحقيقات "مولر" في الولايات المتحدة بشكل محايد ومدقق؛ فإنها سوف تظهر أن الكيان الصهيوني هو من زف ترامب للبيت الأبيض عن طريق عملائه في
السعودية والإمارات، ليتوافق ذلك مع مشروع القرن الذي مخطط له أن ينتهي بالقضاء على الثروات العربية بإنفاقها على شراء السلاح والاقتتال العربي العربي والإسلامي الإسلامي، فيقضى بذلك على أي إمكانية لصحوة عربية أو إسلامية لمئات السنين.
لقد جال ذلك بخاطري وأنا أتتبع تلك المشكلة المفتعلة بين السعودية وكندا، التي أوشكت السعودية بها أن تضرب حصارا على
كندا مثل ذلك الحصار المفروض على قطر! وقد وقفت الولايات المتحدة موقفا محايدا (أو هكذا يبدو) من رعونة المملكة السعودية في مواجهة كندا، ومن قضية حقوق الإنسان في السعودية، ولا مبرر ظاهر لهذا الموقف. ويختلف ذلك عن حيادهم من الحصار الظالم على قطر الذي قد يكون مبررا، فهم لا يشتركون في إضرار بقطر ولا يضرون بمصالحهم.
إن هذه المشكلة بين كندا والسعودية ولا شك مفتعلة، فكندا وإن صمتت كثيرا، إلا أنها تخرج علينا من وقت لآخر بمواقف علنية تدين بها انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة إن كان ذلك الإنسان لا يمثل توجهات سياسية أو إسلامية، فلقد صمتت أمام انتهاكات لا مثيل لها، جرت وما زالت على أرض مصر منذ انقلاب 2013، وقبلت الضغط الاقتصادي من ممولي الانقلاب، وهم بلا شك السعودية والإمارات، وأدانت باستحياء مجازرهما على أرض اليمن.
ومع تصاعد حملات اعتقال النساء والفتيات في السعودية، تحدثت كندا رافضة تلك الاعتقالات التعسفية، وثارت ثائرة آل سعود وأيدتهم ديكتاتوريات العرب، لكن لمَ كل هذه الثورة على نداء سياسي عادي، لا يقابل عادة إلا باستدعاء السفير وتوبيخه؟
أولا، هذا الموقف موجه للداخل، فالحاكم "بأمر الله" من الرياض، قوي وفوق النقد، ويستطيع أن يمنح وقت ما يشاء ولا يحق لمخلوق أن يطالبه بشيء.
ومن ناحية الخارج، أعتقد أن هناك عدة اسباب لذلك، أولها عدم السماح لأي دولة في العالم أن تنتقد آل سعود، ثانيها أن ذلك الحاكم "بأمر الله" من الرياض سيستمر هو وشركاؤه في انتهاكهم لحقوق الإنسان، ولن يسمح لأي دولة بمنعه من ذلك، بالإضافة إلى أن مواقف كندا من الفلسطينيين ودعمها للأنروا لا يتوافق مع المخطط السابق ذكره. ثم إن كندا ترفض إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وتنشط علاقتها التجارية مع قطر، وتترك مساحة من حرية الحركة للناشطين في مجال حقوق الإنسان لرفض الحصار على قطر ورفض الفاشية الحاكمة في مصر.
ولا يفوتنا هنا مشهد التوافق السعودي الإماراتي الأمريكي من إلغاء الاتفاق النووي الإيراني، الذي رفضت كل دول العالم إلغاءه، فنجد أن التحالف الجديد الذي شمل رعاة بقر هذا العصر يطفو على السطح ويتبجح أكثر وأكثر.
ولكن أليس هناك الكثير من الدول في العالم التي تقوم بالدور ذاته، فلماذا كندا؟
لا ننسى أن كندا هي من أقل دول الغرب في حجم التجارة مع السعودية، لذا فمن الممكن أن يتم التمثيل بها حتى يتعظ الآخرين، ومن ناحية أخرى فإن كندا ترفض محاورة الولايات المتحدة منفردة دون المكسيك في اتفاق شمال أمريكا للتجارة الذي يسعى ساكن البيت الأبيض لإلغائه. وهذا مما يفسر محاولة الولايات المتحدة الوقوف على الحياد من هذا التعنت السعودي، وبذا تكون السعودية أدت خدمة للبيت الأبيض.
ولذا، فإنه من الواجب علينا أن نكشف تلك الأمور، وأن نقف جميعا في صف حكومة كندا، بل وأن نحفزها على أن تتمسك بالوقوف بجانب قيمة حقوق الإنسان التي تعلوا فوق كل شيء، وأن ندعوها إلى أن تطبق ذلك على باقي الدول وأكثرها خرقا لحقوق الإنسان اليوم هي مصر. وعلينا أن نواجه صلف السعودية ومن وقف معها بحجة عدم التدخل في الشؤون الداخلية، فحقوق الإنسان لم تعد شأنا داخليا.
إن كاوبوي القرون السابقة لا يصلح للقرن الحادي والعشرين، وعلينا إسقاطهم.