لم تكن
معركة الليرة التركية مجرد معركة اقتصادية محلية. كان واضحا من البداية أنها جولة جديدة من حرب إقليمية دولية ضد
تركيا، بهدف تركيعها وإعادتها للحظيرة الأمريكية الصهيونية، وتحطيم أحلامها التنموية. أدركت قيادة تركيا ذلك مبكرا، وتحركت على هذا الأساس. وجاءت تغريدة ترامب التي ربط فيها بين تراجع
الليرة وفرضه لرسوم جديدة على واردات الصلب والألومنيوم التركية لتصب مزيدا من الزيت على النار، ولتكشف لكل من غامت عليه الرؤية طبيعة المعركة، وقد تواترت تغريدات ترامب وتعليقات مساعديه لاحقا لتؤكد ذلك.
معركة الليرة التركية ليست هي الوحيدة في المنطقة، فهناك حروب مماثلة تشنها الولايات المتحدة ضد دول أخرى، وبالطريقة ذاتها في إيران وروسيا، ومن قبل فعلتها بطريقة مختلفة مع الصين، وحتى مع أوروبا. فالروبل الروسي تراجع بشكل كبير أمام الدولار (ليتجاوز 70 روبلا للدولار) عقب فرض الإدارة الأمريكية عقوبات على بعض المسؤولين ورجال الأعمال الروس، وعقب تهديدات ترامب بأن الصواريخ الأمريكية قادمة (يقصد لضرب روسيا). كما أن التومان الإيراني تراجع كثيرا أمام الدولار مع عودة العقوبات الأمريكية ضد طهران، بعد إلغاء الاتفاق النووي.
معركة الليرة التركية ليست هي الوحيدة في المنطقة، فهناك حروب مماثلة تشنها الولايات المتحدة ضد دول أخرى، وبالطريقة ذاتها في إيران وروسيا
تشعل واشنطن الحرب التجارية مجددا مع كل العالم غير الأمريكي، محطمة بذلك قواعد منظمة التجارة العالمية التي أنشئت عام 1995، وتضم حاليا 152 دولة تلتزم بمقرراتها. والغريب أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت هي الأكثر حماسا لمنظمة التجارة العالمية ومقرراتها، ولكنها اليوم تنقلب على هذه القواعد، فتفرض ضرائب على منتجات روسية وتركية وصينية وأوربية.. إلخ، فاتحة بذلك الباب واسعا
لحرب تجارية دولية يمكن أن تتطور بسهولة لحروب سياسية أو حتى عسكرية.
رغم أن معركة الليرة في جانب منها هي جزء من هذه المعركة الأمريكية الجديدة على قواعد التجارة الحرة العالمية، لكن في الحقيقة فإن معركة الليرة هي أشمل وأكبر من هذه المعركة التجارية. وحتى إن تشابهت إلى حد كبير مع الحالتين الإيرانية والروسية، إلا أنها تتفرد بخصوصيتها، فتركيا مؤهلة لقيادة العالم الإسلامي أكثر من تأهل إيران، بحكم انتمائها (تركيا) للمذهب السني الذي يمثل أكثر من 80 في المئة من المسلمين، وبحكم تطورها الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، ( الاقتصاد السابع عشر عالميا) وبحكم موقعها الجغرفي في قارتي آسيا وأوربا، وبحكم إرثها التاريخي كحاضنة لآخر عاصمة للخلافة الإسلامية، رمز الوحدة الإسلامية، ومن هنا تأخذ الحرب ضدها أبعادا جديدة، ويشارك فيها أحيانا المختلفون، بل والمتحاربون مع بعضهم، ومن ذلك روسيا والغرب، أو حتى إيران والأمريكان.. إلخ. والهدف الواضح هو تركيع دولة تركيا، وتحطيم حلمها وحلم المسلمين عموما بأن تكون لهم دولة قوية حامية لهم قادرة على مواجهة المؤامرات والجرائم ضدهم.
يكثف الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضرباته السياسية والاقتصادية ضد تركيا، حتى لا تحقق مزيدا من التقدم الاقتصادي الذي وعد به رئيسها بأن تكون واحدة من أكبر عشر اقتصادات عالمية، وحتى لا تحقق مزيدا من التقدم السياسي في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ حتى تظل اتهاماته (الغرب) لها في هذا المجال قائمة، وحتى يحرم النموذج التركي من الانتشار مقابل انحسار النموذج الديمقراطي الغربي ذو المعايير المزدوجة، وخاصة تجاه الشعوب العربية والإسلامية. وتزداد كثافة الضربات الغربية بحق تركيا قبيل حلول موعد الذكرى المئوية لقيام الجمهورية التركية في العام 2023، وتستهدف تشويه صورة حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان بنظر الأتراك، ودفعهم للإطاحة به، بعد مرور ما يقرب من عشرين عاما للحزب في سدة الحكم؛ وهو ما لم يتحقق لاي حزب من قبله بما في ذلك حزب مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك.
يستغل ترامب
قضية القس الأمريكي برانسون المحددة إقامته في تركيا والخاضع لتحقيقات لضلوعه في مؤامرة الانقلاب الفاشل منتصف تموز/ يوليو 2016، وتعاونه مع جماعة فتح الله غولن. ويسعى ترامب من استغلال هذه القضية لتحسين وضع حزبه الانتخابي في انتخابات الكونجرس في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، لكسب أصوات المنتمين للمذهب الإنجيلي، ولكن القضاء التركي رفض طلبا بإطلاق سراح برانسون، فهاج ترامب وماج.
يستغل ترامب قضية القس الأمريكي برانسون (..) ويسعى ترامب من استغلال هذه القضية لتحسين وضع حزبه الانتخابي في انتخابات الكونجرس
الحرب الأمريكية على تركيا تشارك فيها أطراف أخرى منها الكيان الصهيوني والكيان الإماراتي والكيان السعودي، وصمود تركيا في مواجهة هذه المؤامرة بأطرافها المختلفة سيسهم في إعادة رسم خريطة المنطقة على أسس جديدة تخالف تقسيمات سايكس- بيكو، وتخالف رغبة اليمين الأمريكي والغربي عموما.
بوادر النجاح التركي ظهرت في وقف تدهور الليرة، التي كان مستهدفا أن تهبط إلى أقل من عُشر دولار، في زمن قياسي، لكنها قلصت سريعا خسائرها، بعد سلسلة من التحركات والقرارات المالية والنقدية الحكومية والشعبية التركية، والتي صاحبها حملات تضامن خارجية، سواء عبر حملات شعبية عربية وإسلامية بتحويل أرصدة دولارية إلى العملة التركية، أو عبر تدفق استثمارات ومساعدات قطرية بقيمة 15 مليار دولار، أو عبر وصول 60 من كبار المستثمرن الصينيين إلى تركيا لإطلاق مشروعات استثمارية جديدة، أو عبر بوادر تغير في الموقف الأوربي بقيادة ألمانيا التي استهجنت ما يحدث مع تركيا ووعدت بالتحرك لمواجهة ذلك، أو حتى عبر تصريح رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، وهو ما يمكن ان يقلب السحر على الساحر في النهاية
ليفقد الدولار مصداقيته كوسيط للتعامل الدولي، ويحل محله عملات أخرى تدريجيا، وبذلك تفقد واشنطن أخطر سلاح في يدها للهيمنة على العالم.
تشي هذه المعركة بحدوث تغيرات جيوسياسية مهمة إقلمية وحتى دولية. فأوروبا التي كانت تتشدد مع تركيا بل تتآمر عليها، وترفض بطرق مباشرة وغير مباشرة ضمها للاتحاد الأوروبي (بحسبانه ناديا مسيحيا)؛ تبدي إشارات جديدة عن مرونة الآن لإعادة بحث هذه المسألة، وظهر ذلك في تقرير الفايننشال تايمز الأخير، وتصريحات ألمانية، وكذا تصريحات رئيس المفوضية الأوروبية يونكر.
تشي هذه المعركة بحدوث تغيرات جيوسياسية مهمة إقلمية وحتى دولية. فأوروبا التي كانت تتشدد مع تركيا بل تتآمر عليها، وترفض بطرق مباشرة وغير مباشرة ضمها للاتحاد الأوروبي
أما على المستوى الإقليمي، فإن خروج تركيا منتصرة من معركة الليرة سيعزز قوتها الاقتصادية والسياسية في المنطقة، وسيعزز دورها كقوة إقليمية مؤثرة، قادرة على لجم نزوات بعض صبيان الخليج العربي، وربما دفعهم لإعادة النظر في سياساتهم التآمرية بحق تركيا وبحق شعوب المنطقة عموما.
وسيعزز انتصار تركيا في هذه المعركة تحالفها الهش مع روسيا وإيران، وفق تعديلات جديدة لصالح أنقرة. والأهم من ذلك كله، فإن هذا الانتصار لن يقتصر أثره على تركيا، بل سيمتد لكل شعوب المنطقة الحالمة بالحرية والانعتاق من الهيمنة الأمريكية وذيولها من الحكام المستبدين في المنطقة، وسيفتح باب الأمل مجددا للشعوب، وخاصة في دول الربيع العربي للخلاص من الثورات المضادة وحكوماتها.