تونس العاصمة تقفر في عيد الأضحى، فتترك للسكان الأصليين متعة الشعور بتملك المكان، ولكن إلى حين ستعود أفواج النزوح إلى العاصمة، وتضيق الأنفاس على البلدية. الأمر مضحك بعض الشيء، فليس في المدنية سكان أصليون إلا ما ترك الأتراك بيننا. فحتى الهاربون من الأندلس استقروا حول مجرى النهر اليتيم، وعمروا الأرض وهم يدخلون العاصمة بصفتهم نازحين. لكن هذا التقسيم لم يعد حاكما على الهويات. نشأت الآن، ومع دخول الأيديولوجيات السوقية، هويات أخرى يمكن وصفها بتنازع تيار الفردانية مع تيار المحافظة على
الأسرة والانتماء القرابي. بلغة دوركهايم، تنازع بين تضامنات آلية وأخرى عضوية في خضم معركة إعادة بناء الهويات الصغرى و/ أو المحلية داخل اقتصاد السوق المعولم.
علمانيون يعيدون بسمكة
بعض طرائف السوشيال ميديا الاستفزازية أن بعض رافضي الأضحية وخلفيتها
الدينية يتبجحون بأنهم يأكلون السمك يوم عيد الأضحى، نكاية في القتلة الذين يصابحون على ذبح الخرفان والعجول. لكننا نشم رائحة الشواء في بيوت علمانية، ونقول لعل رائحة السمك تغيرت. إنهم يتعذبون بمعنى
العيد، ونرى عذاباتهم في تشددهم في الانعزال عن الناس ونسخر. فالعيد في غالب الأحيان، وخاصة لدى فئة كبيرة من الشباب من غير المتعبدين، مناسبة أسرية أكثر منها مناسبة دينية.
فلمة الأسرة مقدسة عند الأغلبية الواسعة من الناس.. الصلاة الجامعة حتى لغير المتعبدين، ثم تبادل التهاني والزيارات في الجوار القريب ثم البعيد، وتبادل التهاني بالتراسل الافتراضي الذي وسّع شبكة التعارف بين الناس رغم المسافات.
هنا يرتبك المعيدون على السمك، إذ يجدون أنفسهم في سياق مجاملات بخلفية دينية مزعجة. إذ يرون أنفسهم في عزلة نفسية لا يخفف منها السمك المشوي أو الهروب إلى البحر أو النوم إلى العشية حتى تنتهي "حفلة الوسخ المتخلف".. إنهم يبذلون جهدا مضاعفا لتجاهل المناسبة أخف منه الانخراط فيها، والتعامل مع عامة الناس باحترام وعيهم وعواطفهم.
إنهم يغرقون في فردانية قاسية لا يخفف منها الشعور بالتفوق الذهني على العوام. العوام الذين لا يبذلون جهدا تعبديا كبيرا في المناسبة، ولكنهم يقدسون اللقاءات الأسرية التي تشعرهم بالأمان النفسي والاجتماعي الذي كان ولا يزال خلفية وظيفية لكل احتفال مقدس.
حفل شواء بلحم مقدس
عشية يوم عرفة، يكون من العسير العثور على زجاجة خمر أو بيرة في فضاءات بيعها. الشباب يستعد لحفل شواء وليس لصلاة العيد، لكنه يفعل ذلك ضمن ارتباطات غير انعزالية، إذ تأخذ الأسرة وقتها الصباحي بينما تكون العشية للاحتفال اللاهي، ولكنه لهو خاص وليس لهو الأيام العادية (المتاح دوما)، فهذا حفل شواء بلحم مقدس.
إنه نوع من الجمع التركيبي بين مناسبة دينية ومتعة حسية لا يشعر فيها الشاب بتناقض كبير بين قدسية المناسبة وبين حسية المتعة ويجدون فتاوى واجتهادات مثل البسملة والاستغفار قبل شرب الخمر والوعد بتوبة عند الكبر.
علاقة خاصة بالدين وبالمقدس تفرض لها طريقا ضمن السلوكيات العامة، لكنها لا تمتهن تدين المتدينين ولا تنعتهم بالتخلف والرجعية والظلامية والقروسطية. ويكون الاجتماع بالأسر الممتدة نوعا من الحجية المبررة للتفرغ لاحقا للمتعة، فقد تمت تأدية الواجب، وأُكرم الكبير وأُهدي الصغير. هنا أيضا يتيه الفرادنيون.. إنهم لا يفهمون هذه العلاقة بالمقدس، ويذهبون إلى أن هذا السلوك مؤشر على ضعف التدين، ويبشرون أنفسهم بقرب تخلص العامة من الدين، لكنهم يغفلون درس أنتروبولوجيا مهما.. الدين ليس في دور العبادة، وهو ليس الإسلام السياسي.
النخبة الانعزالية
عبارات التقزز من العيد وأوساخه هي الأكثر تداولات على صفحات ترفض العيد في سياق رفض التدين. نعم.. تسود المدينة، وخاصة في الأحياء الشعبية، كثير من مظاهر القذارة، مثل رمي جلود الأضاحي في المزابل المفتوحة وحرق رؤوس الأضاحي في الطرقات لإعدادها للأكل. لكن الأوساخ المتراكمة ناتجة عن تقصير عمال التنظيف، وليس عن العيد في ذاته، علما أن كثيرا من المتقززين من أوساخ العيد لا يدخلون الأحياء الشعبية، فهذه أحياء الذين يبسملون قبل شرب الخمر. إنها أحياء التدين الشعبي، أحياء الأسرة المجتمعة، والتي تغتنم الأعياد لتعيد لحم روابطها وعلاقتاها وتتسامح في اختلافاتها، ليستمر بذلك الشعور المريح بالانتماء إلى الناس، وقد انعدم الشعور بالأمان بالانتماء إلى الوطن أو الدولة.
الأسرة تعويض عن خيبة الدولة، فالفرد المقضي اجتماعيا، والذي يعيش شعورا متناميا بالتفقير والتهميش، لا يجد غير الوعاء الأسري التقليدي يفرغ داخله شكواه وألمه، ويستنهض به همته لمزيد من الكفاح اليومي داخل دولة مقسمة بين نخبة تتقزز وعامة تضحك إذا شبعت لحما بعد طول فراق. هنا تتضح العزلة.. إن رغبة النخبة في القضاء على الأسرة وروابطها تحس من لدن عوام الناس كاعتداء على الحصن النفسي الأخير، لذلك تخاف رئيسة لجنة المساواة أن تعرض أفكارها على الاستفتاء.
المساس بتماسك الأسرة عنوان قطيعة
عندما ذكر احتمال الاستفتاء على تعديلات الأحوال الشخصية، أعلنت رئيسة اللجنة أن الشعب غير واع بأفكارها الجديدة، لكن يبدو أنها هي التي تفتقد الوعي والفهم السليم لروح الناس وما يحركهم.. إنها بعيدة عن فهم علاقة الناس بالدين من ناحية، والشعور بالأمان الذي يعطيه من خلال بناء الأسرة والحفاظ عليها، حيث يكون العيد إحدى أهم وسائل الحفاظ على الأسرة (حيث يصبح شرب الخمر تفصيلا طريفا في سياق تدين يقدس الرابطة العائلية الاجتماعية، وأن يستفتي بطنه في علاقته بالله).
سيكون على دعاة تفكيك الأسرة بالتراقص على قانون الأحوال الشخصية بذل جهد إضافي لفهم التدين الشعبي؛ المختلف كلية عن تدين الإسلام السياسي، حتى يعيدوا بناء علاقتهم بالناس، فلا يردون على الإسلام السياسي برفض التدين جملة وتفصيلا (وهو بالمناسبة خلط غبي يستفيد منه الإسلام السياسي).
العيد والخروف لا يمكن تعويضه بحفل شواء سمك، فكثيرون يشوون السمك في غير وقت العيد، لكنهم يخلصون للأضحية بروح متدينة قد لا تنعكس على السلوك الظاهر، لكنها تمتن بنيانهم النفسي، وترص صفوفهم في مواجهة دولة بنتها نخب تتقزز من الذبح، لكنها تطلب لحم الخروف المشوي في المطاعم. نخبة مفترسة تتخاجل من احتفالات ذبح الخرفان، لكنها تسهم في حفلات ذبح البشر في صيدنايا، وحرقهم أحياء في رابعة.