بسرعة كبيرة مرت عيني على الكلمات، عدت مرة أخرى لأقرأ ما كتب ذلك الطبيب في شهادته على ذلك اليوم.
روى كيف هبط صاروخان، فأسرع هو وزميله للمستشفى، خصوصا مع توقف سيارة ونزول بعض المصابين. بداية ربما تبدو عادية لمن خبروا الوضع في
سوريا، وإن كانت على المستوى الإنساني مفزعة.
مفزع أن ترى تلك الحالة من الجزع الإنساني لأم تحمل صغيرها وتنظر لإنسان ما، متتبعة حركات أصابعه لحظة بلحظة، ولسانها يلهج بالدعاء، وقلبها يكاد يقفز من مكانه، ودموع متحجرة في عينيها، وهي تتابع تحركات صدر صغيرها، تنتظر أن يفتح عينيه أو أن يبتسم. تنتظر منه هو أن يمنحها الأمل. إنها بلا شك لحظات مزلزلة.
شهادة الطبيب التي نقلتها إحدى صفحات
الثورة السورية، تنقل لك بالتفاصيل، مشهدا يبدو أنه وباقي الأطباء السوريين كانوا قد تعودوا عليه، حتى ذلك الوقت من عام 2013، أي بعد عامين من اندلاع الثورة السورية.
كلمات الطبيب عن هبوط الصاروخين وتحركه مع زميله للمستشفى، وسرعة اتخاذهما للاستعدادات تُشعرك بخبرتهما التي اكتسباها من شهور من المجازر الوحشية والقصف الجوي الذي كان يرتكبه نظام بشار حتى ذلك الوقت. الجديد في شهادة الطبيب هو ما جاء بعد ذلك.
كلمات الطبيب أصابتني بالقشعريرة. الطبيب ذلك الإنسان القادر على التعامل مع إصابات نتجت عن قصف جوي، ذلك الذي يسرع في حرفية ليخيط جرحا أو يوقف نزيفا أو يسعف مصابا، ذلك الشخص الذي يتحرك في سرعة وهو يجر نقالة تقل جريحا ينزف، بينما يلقي هو مجموعة من الأوامر في سرعة وآلية.
ذلك الشخص القادر على التصرف بهذه الطريقة، بينما تدوي الصرخات حوله، يصف أعداد المصابين بأنها مخيفة!!
الوصف نفسه أصابني بالقشعريرة. الطبيب نفسه كان يتوقع نوبة من تلك النوبات التي اعتادها، حين تهاجمهم طائرات النظام، فيتعامل مع أعداد الجرحى التي ألفها. كلمات الطبيب تُشعرك بتلك الأجواء المخيفة التي تتحول فيها أعداد الجرحى من خانة العشرات إلى خانة المئات، ثم يفقد المتابع بعدها القدرة على العد.
المفزع في الأمر، وما لا أستطيع أنا شخصيا نسيانه، هو صورة الأطفال المتراصين بجانب بعضهم البعض، الذين يظنهم من يراهم لأول وهلة في غفوة، بينما هم قد فارقوا الحياة وعلى وجوهم ترتسم براءة الطفولة، وغفلة نوم لم يصحوا منه.
المبكي، أن تتصور أن هؤلاء الأطفال لم يشعروا حتى بتأثير الغازات السامة التي قصفها بهم نظام بشار. هؤلاء أطفال، ماتوا قبل أن يدركوا أنهم ماتوا.
أتذكر هذا المشهد الذي يأبى مفارقة ذاكرتي الآن بتفاصيله، وأتصور كيف يمكن لإنسان أن يصمد في مواجهة مشهد كهذا.
لا ريب أن ذلك الطبيب الذي روى في شهادته كيف نقلته إحدى السيارات إلى منازل مصابين، قد بذل مجهودا يفوق التصور، ليستطيع التجلد وهو يرى تلك المشاهد بينما يسرع لإسعافهم.
الحقيقة، أن هذه المشاهد في سوريا لم تكن ممكنة لولا مشاهد أخرى وقعت قبلها بأيام في رابعة.
إن قراءة شهادات الأطباء في كتاب مجزرة رابعة بين الرواية والتوثيق، التي تحدثت عن حرق المستشفى الميداني، ومقارنتها بالمشاهد التي ينقلها لنا طبيب الغوطة في شهادته، تبين أن ما يحدث في المنطقة أمر يفوق قدرة العقل على التصور.
لم تكن
مجزرة الكيماوي في سوريا ممكنة دون مجازر ارتكبها الانقلاب في مصر، مجزرة رابعة والنهضة ومجزرة رمسيس ومجزرة عربة الترحيلات، ولم تكن هذه المجازر الكبرى ممكنة لولا مجازر أخرى سبقتها ومهدت كل واحدة منها الطريق إلى أختها.
رحم الله شهداء مجزرة الكيماوي في سوريا، وإخوانهم شهداء مجازر الانقلاب في مصر.