بعيدا عن الضجة التي عاشتها مصر ووصلت
أصداءها للعالم الخارجي بالقبض على مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير معصوم مرزوق
والدكتور يحيى القزاز وخمسة آخرين ثم تقديمهم للتحقيق ثم حبسهم على ذمة قضية جديدة،
فإن حدثا لا يقل أهمية شهدته تلك الواقعة، وهو متصل بالصحافة المصرية وما آلت إليه
أوضاعها في السنوات الأخيرة، في ظل جو خانق اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، وانسداد
قنوات المعلومات الأساسية لأي عمل صحفي يحترم مهنته ويحترم قارئه، وهي كلها عوامل
تخنق الصحافة وتقتلها ببطء، غير أن ما حدث أمس هو أشبه بإعلان موت الصحافة فعليا
في مصر.
عندما حدثت واقعة إلقاء القبض على السفير معصوم والآخرين، انتشر الخبر كالنار في الهشيم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ومن خلال تصريحات مؤسسات حقوقية ومحامين مهتمين بقضايا الشأن العام، مثل طارق العوضي وخالد علي وعمرو إمام، وازداد الأمر وضوحا بعد ساعات عند وصول المقبوض عليهم إلى نيابة أمن الدولة العليا تمهيدا لبدء التحقيق معهم، وهو التحقيق الذي انتهى في ساعة متأخرة بقرار حبسهم على ذمة التحقيقات خمسة عشر يوما.
مثل هذا الخبر كان يجد مكانه ـ عادة ـ
في صدر مواقع الصحف القومية والخاصة والحزبية على الفور، وخلال دقائق، بل هو حتى
بمعايير المهنة -وبعيدا عن أي تسييس- سبق صحفي مهم يقاتل الصحفي من أجل أن ينشره
أولا، كما تحارب الصحيفة وموقعها من أجل نشره قبل غيرها لأنه يسجل لها في محركات
البحث الكبرى بطبيعة الحال، لكن الذي حدث أن الناس انتظرت طويلا أن تقرأ شيئا عن
هذا الحدث المهم في أي صحيفة مصرية قومية كبيرة أو صغيرة، وحتى الصحف الخاصة
المحسوبة على النظام والمقربة من الأجهزة، إلا أن انتظارهم الذي طال باء بالفشل،
فلم تنشر صحيفة واحدة أي خبر عن الاعتقالات، وانشغلت بدلا من ذلك بنشر خبر توقيف
الداخلية لأمين شرطة أساء معاملة طفل يبيع المناديل في مترو الأنفاق وانتشر
الفيديو الخاص به على الانترنت.
بعد أقل من ساعة من انتشار خبر اعتقال
السفير معصوم مرزوق على صفحات التواصل الاجتماعي وتصريحات المحامين، بدأت الصحافة
العالمية بالاهتمام به وإبرازه والكتابة عنه، فنشرت عنه الصحافة الأمريكية بما
فيها النيويورك تايمز الأكثر شهرة في العالم، كما نشرت عنه مواقع التليفزيون
الرسمي الروسي شرقا، كما نشرت عنه قناة بي بي سي ومواقعها باللغات المختلفة، كما
نشرت عنه "فرانس 24" الفرنسية الشهيرة وكذلك الدوتش فيلا الألمانيةK وغير
ذلك من صحف وقنوات تلفزيونية كبرى، كلهم يتحدثون عن الاعتقالات المثيرة التي حدثت
في مصر وأسبابها وأبعادها، وبعضهم يستطلع آراء بعض المحللين حولها، وصلتها
بالمبادرة التي قدمها معصوم للإصلاح السياسي، وبعض تلك الصحف والفضائيات يرصد
أصداء الاعتقالات في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا صحافة مصر وفضائيات مصر،
الحكومية والخاصة، لم ينشر أحد فيها شيئا، وكأن ما جرى كان في جزر القمر أو
الفوكلاند.
كان مثيرا للدهشة والشفقة معا، أن يصل
الخبر وينشر في لندن وباريس ونيويورك وموسكو ومختلف أنحاء العالم، بينما هو لم يصل
بعد إلى شارع الجلاء أو شارع رمسيس في وسط القاهرة أو ميدان مصطفى محمود
بالمهندسين، هذا أمر لا أظن أنه حدث من قبل في مصر خلال النصف قرن الأخير كله، وهو
مهين جدا للصحافة وأبنائها، بكل أطيافهم، حتى أبناء الصحف القومية، هو مهين للمهنة
في حد ذاتها، وكأن أحدا أراد أن يبعث برسالة للجميع، تعلن لهم سحب أي كرامة
لمهنتهم أو أي حد أدنى من تلك الكرامة التي تحفظ ماء الوجه، أحدهم ضن عليهم حتى
بماء الوجه.
عن صحيفة المصريون المصرية