يقال إن الثورات تأكل أبناءها، فما بالك بالثورات المضادة التي تقوم
على الغدر والخداع؟! إن أبطال ما سُمي بثورة 30 يونيو إما معتقل أو مختبئ في بيته
في سبات سياسي، في انتظار القبض عليه في أي لحظة وتحت أي ذريعة، أو هرب خارج
البلاد، أو آثر السلامة وأعلن اعتزاله السياسة رسميا، كالفريق أحمد شقيق الذي منعوه
من الترشح للرئاسة، وتحت ضغط التهديدات اضطر أن يعلن تراجعه عن الترشيح.. وهو كان
أحد بل أهم أضلاع الثورة المضادة، كما اعترف هو بنفسه، في أحد لقاءاته المتلفزة،
بدوره في الانقلاب؛ معاتبا السلطة الحاكمة التي أوصلها لسدة الرئاسة عن تجاهلها
له، رغم كل ما بذله من جهد مضن في تحضير الانقلاب، وأن الاجتماعات التي كانت تحضر
له كانت تجرى في بيته في دبي مع السفير الأمريكي.
ومع
تجفيف منابع الحياة السياسية التي تمر بها
مصر حاليا، تشتد القبضة الأمنية على كل
مناحي الحياة، وتمتد العصا الغليظة إلى كل مَن ينبس ببنت شفة حتى لو كان من
المحسوبين على النظام ذاته ومن داعميه. ولذلك لم يكن مفاجئا اعتقال السفير معصوم
مرزوق صاحب المبادرة الأخيرة في سيل المبادرات التي تنهمر علينا كالمطر كل حين،
كان أهم ما فيها مطالبته للنظام بعمل استفتاء على بقائه من عدمه، وإذا لم يستجب
النظام لمبادرته فيعتبر ذلك بمثابة رفض، فيدعو الجماهير للاحتشاد يوم الجمعة،
الموافق 31 تموز/ يوليو، في ميدان التحرير. وقد شرحت في مقال سابق أن هذه المبادرة
تعد في صالح النظام ذاته، بل إن
السيسي نفسه، في طموحه لتثبيت دعائم حكمه، ما أقدم
على مثل هذه المبادرة التي تقويه وترسخ أركانه. فكل مفاصل الدولة في قبضة يده، وكل
السلطات تحت إمرته، وهو الذي يتحكم في الجيش وفي الشرطة والإعلام، فلو استجاب
للمبادرة وأجرى الاستفتاء لحصل على 99.999 في المئة ككل الاستفتاءات التي كانت
تُجرى في عهد جمال عبد الناصر. وهو مولع بتلك الفترة التي كانت مصر تحكم فيها
بالحديد والنار، بل إنه تفوق على ملهمه بمراحل. وكما نردد دائما في مصر تلك
المقولة المعبرة التي سكنت في الذاكرة المصرية الجماعية منذ أكثر من خمسين عاما،
وأصبحت من المأثورات الدارجة: "البلد بلدهم، والورق ورقهم، والدفاتر
دفاترهم"، نقلا عن فيلم "الزوجة الثانية"، وقالها شيخ البلد
الموالي للعمدة للمأذون عندما اعترض على زواج العمدة من فلاحة دون انقضاء العدة
"اكتب ياعم الشيخ، البلد بلدنا، والورق ورقنا، والدفاتر دفاترنا"!
ومع
ذلك، لم يتحمل النظام من أحد مواليه هذه المبادرة التي تبغي الإصلاح من داخل نفس
النظام، وليس انقلابا عليه. فالسيسي لا يريد أي تحرك سياسي حتى لو كان بريئا داخل
منظومة الحكم بعد شطبه لكلمة سياسة من قاموس الحكم، فقد سبق وقال: "أنا مش سياسي"،
ورددها أكثر من مرة. فلم تعد الأحزاب ديكورا - كما كانت في عهد المخلوع "حسنى
مبارك" - تفرز من داخلها معارضة مستأنسة مصنوعة على أعين النظام لتفرغ غضب
الشارع، بل أصبحت مقابر معلق عليها لوحاتها فقط، وغير مسموح بمدها بأوكسجين الحياة
السياسية لينبض فيها الحياة من جديد!
بعد
أن تخلص النظام من مناهضيه بعد مذبحتي رابعة العدوية والنهضة وأخواتهما، ثم الذين
نجوا من القتل زج بهم في السجون، أصبح الآن مذعورا من أنصاره وممن دعموه وأوصلوه
لسدة الحكم. فلقد كان السفير معصوم مرزوق، وكذلك الدكتور يحيى القزاز (الذي كان
المتحدث الإعلامي لحركة تمرد المخابراتية الممولة إماراتيا والتي مهدت للانقلاب)
الذي اعتقل أيضا مع ثلاثة آخرين، كانوا جميعا يحرضون على الرئيس المنتخب الدكتور
"محمد مرسى" ويطالبون بتدخل الجيش، واستغلهم السيسي ليكونوا الغطاء
المدني الذي يتزين به أمام العالم، ليظهرها ثورة شعبية، واتخذهم مطية لتمر دباباته
من فوقهم لسدة الحكم!
وعلى
الرغم من أنهم جميعا يكنون كراهية عميقة في نفوسهم تجاه الإخوان، لا يخفونها ولا
يتورعون لحظة من إظهارها في كل أحاديثهم وكتاباتهم، ولا يزالون يعتبرون ما حدث في
30 حزيران/ يونيو ثورة، وتأخذهم العزة بالإثم لأن يعترفوا بخطيئتهم، وهم المُدعون
بأنهم القوى المدنية التي تؤمن بالديمقراطية وبصندوق الانتخاب، بل إن السفير معصوم
مرزوق في آخر لقاء تلفزيوني له نفى أن يكون ما حدث يوم 3 تموز/ يوليو انقلابا، بل
أسماه صراعا!.. كل هذا لم يشفع لهم عند سلطة الانقلاب، فكان مصيرهم جميعا السجن.
ومن السخرية أن توجه إليهم تهمة "مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق
أهدافها" (يقصد بها الإخوان بطبيعة الحال) وتلقي تمويل بغرض إرهابي،
والاشتراك في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب جريمة إرهابية! ومن المفارقة أن هؤلاء
كانوا ينعتون الإخوان بالإرهاب، تمشيا مع سياسة النظام ولغته!
وهكذا
يتضح كيف أصبح النظام أسير هاجس الإخوان، وأنه مصاب "بالإخوانوفوبيا"
التي تشعره بأن حتى أقرب الموالين له، والذين يريدون نصحه وتصحيح المسار ليس أكثر،
إنما هم مدفوعون من الإخوان ويعملون لصالحهم، فما بالك بالمعارضين أصلا لسياساته
الداخلية والخارجية والمطالبين بالحرية؟! على الفور تشتغل آلته الإعلامية وتصنفهم
على إنهم إخوان، وتصبح التهمة جاهزة، "تكوين جماعة إرهابية"، كما فعلوا
مع اليساري الدكتور جمال عبد الفتاح ورفاقه القابعين في غياهب السجون منذ أشهر!
فلم تعد السجون تمتلئ بالتيار الإسلامي فحسب، بل أصبحت مرتعا لكل من يطالب بالحرية
من جميع الاتجاهات وكل الأطياف السياسية!
انقسم
الشارع المصري كحاله منذ الانقلاب العسكري، وكما غنى أحد مطربي الانقلاب
"إحنا شعب وإنتو شعب"، فأصبح لمصر شعبان يعيشان على أرضها وتحت سمائها.
وكما بدا هذا واضحا في الكثير من المواقف والأزمات، فقد تجلى هذا أيضا عقب القبض
عليهم بين متعاطف معهم، وهم النخب من التيار المدني ممن يكرهون الإخوان والتيار
الإسلامي بصفة عامة، وبين فرِحٍ شامت فيهم، وهم من الشعب الآخر. وعلى الرغم من أن
جماعة الإخوان المسلمين قد أصدرت بيانا استنكرت وأدانت فيه اعتقال السفير معصوم
مرزوق ورفاقه، وطالبت بالإفراج عنهم، إلا إن الكثيرين من أعضائها والمتعاطفين معهم
هاجموا هذا البيان ووصفوه بالتخاذل أمام من تلوثت يداه بدماء المصريين، وكانوا
سببا لما وصلت إليه مصر. وطبعا من هؤلاء مَن فقدت زوجها أو ابنها أو أخيها أو أحد
أقاربها أو صديقا في مذابح العسكر أو كان قابعا في السجون. أما غالبية الشعبين
المطحون في همومه الذاتية ومشاكله التي لا حصر لها ويعانى اقتصاديا، فلم يهتم
بالأمر من بعيد ولا من قريب، فهم ربما لا يعرفون أصلا أسماءهم ومَن يكونون.. فلم
يكن لهم أي قاعدة شعبية على الأرض تناصرهم، فهم ككل النخب السياسية في مصر التي
تصنع زعامتها من وراء شاشات الفضائيات وتعيش في أبراج عاجية.. مجرد فقاعات هوائية
أو ظاهرة صوتية لا أكثر، ومع ذلك أزعجت النظام، مما يثبت أنه نظام هش رغم دعمه إقليميا
ودوليا بشكل غير مسبوق، مع غض الطرف عن كل جرائمه من قِبل المجتمع الدولي... مع
ذلك، يرتجف من كلمة نقد أو نصيحة، ويطالب الجميع بأن يعزف معزوفة إعلامه الفاجر
"تسلم الأيادي" ويظل مُغيبا في الوهم والكذب، وإلا أصبح فاسقا منشقا
وجبت محاكمته!