رغم أن حزب العمال البريطاني من المفروض أنه يساري، إلا أن كتلته البرلمانية تحتوي على زمرة من اليمينيين يشار إليهم في الأدبيات السياسية البريطانية بفصيل طوني بلير. دخل هذا الفصيل في تحالف مع اللوبي الصهيوني داخل بريطانيا ليشن حربا شعواء ضد رئيس الحزب اليساري المخضرم جيريمي كوربين بحجة معاداته للسامية، مستخدمين ذريعة في ذلك موقفه الرافض لتبني تعريف لمعاداة السامية يروج له أنصار إسرائيل حول العالم بهدف تحصينها ضد أي نقد يوجه إلى الكيان الصهيوني بسبب ممارساته العنصرية ضد الفلسطينيين.
والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن جيريمي كوربين يستحق غير ذلك من هؤلاء النواب الجاحدين للمعروف، فهو الذي أعاد إحياء حزب العمال بعد أن تراجع بشكل مريع خلال السنوات التي تلت الحرب على العراق وحفظ لهم ماء وجههم. لكن ما هو أكثر مدعاة للاستغراب أن توجه إلى جيريمي سهام الانتقاد على أفعال سبقه إليه جل السياسيين البريطانيين بما فيهم طوني بلير ذاته.
ومن بين السخافات التي تثار ويتعرض بسببها جيريمي لعملية تشهير واسعة النطاق في وسائل الإعلام اليمينية، مثل التلغراف والديلي ميل، حضوره أو مشاركته في مؤتمرات شارك فيها أفراد، مثلي، لديهم علاقات وثيقة بحركة حماس. والمفارقة هنا أن تلك اللقاءات والندوات كانت تعقد على الملأ والدعوات إليها كانت عامة، فكان يروج إليها، بل وتغطيها في كثير من الأحيان وسائل الإعلام، ولم يكن حينها يثير ذلك حفيظة أحد أو يقابل بانتقاد أو تنديد. أما الآن، فتطالعنا بعض الصحف بنشر صور من تلك المناسبات وكأنما هي صور إدانة جمعت من موقع جريمة بشعة. وما المشكلة في أن يكون جيريمي كوربين قد شارك معي في ندوة أو محاضرة أو مؤتمر حول الصراع في فلسطين وكيفية التوصل إلى حل له؟ كل ما هنالك أن اليمين داخل حزب العمال بالتعاون مع اللوبي الصهيوني عازمون على إسقاط جيريمي من زعامة الحزب، ويستخدمون في ذلك أحط الوسائل بما في ذلك الافتراء عليه أمام الرأي العام، كما هو ديدنهم في كل معاركهم، وما ذلك إلا لمواقفه المشرفة المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني وانتقاداته الشجاعة لانتهاكات إسرائيل السافرة لتلك الحقوق.
في واقع الأمر، عندما كنت أشارك جنباً إلى جنب مع جيريمي في كثير من تلك الفعاليات كانت علاقاتي بالمؤسسة الحاكمة في بريطانيا في أحسن أحوالها، وظلت كذلك إلى ما بعد عام تقريباً من الانقلاب العسكري الدموي في مصر في يوليو 2013.
كان المسؤولون في الحكومة البريطانية، في عهد حزب العمال وحزب المحافظين على قدم المساواة، يعرفون بقربي من حركة حماس، ولم يجدوا رغم ذلك مشكلة في التواصل معي بل والاستعانة بي في بعض المناسبات، والحقيقة هي أن العلاقة معهم لم تنقطع إلا بعد أن انصاع دافيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، للضغوط السعودية والإماراتية وأمر بإعداد مراجعة حول جماعة الإخوان المسلمين التي أنتمي إليها، رجاء أن يجد ما يبرر له وضعها على قائمة الإرهاب.
ومن المواقف التي لا تنسى ما حصل عام 2005 عندما تواصل معي ما يسمى بالفرع الخاص التابع لجهاز مباحث سكوتلاند يارد وطلب لقاء معي بصفتي قياديا في الرابطة الإسلامية في بريطانيا. وفي اللقاء طلبت مني الحكومة البريطانية ممثلة بأهم جهاز أمني داخلي لديها الطلب من الرابطة الإسلامية المساعدة فيما عجزت عن تحقيقه حتى تلك الساعة، ألا وهي مهمة استنقاذ مسجد فينسبري بارك شمال لندن وإعادته إلى الجالية المسلمة في حي إيسلنغتون. وكان المسجد مغتصباً ومحتلاً من قبل مجموعة من أتباع "أبو حمزة المصري"، الذين حولوه إلى مركز لنشر الكراهية والدعوة إلى ممارسة العنف، مما سبب صداعاً شديداً للحكومة البريطانية، حتى أنها حاولت، ولكن أخفقت، ذات مرة في اقتحامه بالقوة.
كان المسؤولون في الحكومة البريطانية في عهد حزب العمال وحزب المحافظين على قدم المساواة يعرفون بقربي من حركة حماس ولم يجدوا رغم ذلك مشكلة في التواصل معي..
تشكلت غرفة عمليات كنت أنا واثنين آخرين من قادة الرابطة الإسلامية جزءا منها، وكان ممثلاً فيها أيضاً كل من الفرع الخاص في سكوتلاند يارد، وشرطة العاصمة، والهيئة البريطانية للإشراف على المؤسسات الخيرية، وعدد من نواب البرلمان البريطاني. وضعت الغرفة معا خطة لاسترجاع المسجد، عمودها الفقري والمنفذ الفعلي لها هم أعضاء الرابطة الإسلامية، الذين استنفروا من كافة أرجاء بريطانيا وأنجزوا المهمة بأمن وسلام، بينما كانت قوات الأمن تنتظر بعيداً عن المشهد تحسباً من الحاجة إلى تدخلها. وتم بذلك إعادة المسجد إلى الجالية، وطويت صفحة سوداء في تاريخه، وكل ذلك كان بتخويل وإشراف من الحكومة البريطانية. لقد قام أعضاء الرابطة بهذا العمل المهم خدمة للمجتمع البريطاني وللجالية المسلمة فيه، والأهم من ذلك خدمة للإسلام الذي سعى نفر من المضللين من خلال احتلالهم للمسجد دون وجه حق إلى تشويه صورته والإساءة إلى سمعته.
بعد ذلك بعشرة أعوام تقريباً، وبعد أن خرج طوني بلير من الحكم، أخبرني صديقي خالد مشعل، الذي كان حينها ما يزال رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس، بأن مكتب طوني بلير تواصل مع مكتبه ليخبره برغبة طوني بلير بزيارته في الدوحة واللقاء مع خالد مشعل. ويبدو أن طوني بلير قد تواصل قبل ذلك مع الإسرائيليين والأمريكيين والقطريين، وكلهم أبدى موافقته بل وتحمسه لمغامرة بلير الجديدة. كان رأيي الذي أشرت به على صديقي أن طوني بلير رجل سيء الصيت داخل بريطانيا، وربما في كثير من أنحاء العالم، بسبب ما كان له من دور في غزو العراق، ولكنني لم أكن أرى ضرراً في الالتقاء به والاستماع لما ينوي عرضه على الحركة.
زار بلير الدوحة والتقى بمشعل وإخوانه في قيادة الحركة، ثم ما لبثت تلك الزيارة أن أضحت الأولى في سلسلة متعاقبة من الزيارات، علمت بعد ذلك من صديقي أن طوني بلير كان يستمتع بقضاء أمسيات طويلة من الحوار مع هؤلاء الذين كان له دور أساسي في السابق في حظر حركتهم ووضعها على قائمة الإرهاب داخل دول الاتحاد الأوروبي. كدت لا أصدق ما أسمعه عن حالة الانسجام الحاصلة بين الطرفين، ولعل السبب في ذلك أنني لم أكن أحب بلير ولا أثق به وكنت من أشد معارضيه في غزو العراق. في بداية الأمر، كان بلير يتصرف بوصفه مبعوث الرباعية إلى الشرق الأوسط (والرباعية تتكون من: الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا)، ولكن زياراته ولقاءاته مع مشعل لم تتوقف حتى بعد أن ترك منصبه ذاك. وكان دائماً يعطي الانطباع لمن يحاورهم بأن زياراته تتم بعلم وموافقة كل من الأمريكان والإسرائيليين والأوروبيين، بما في ذلك حكومة حزب المحافظين البريطانية.
ثم جاءت المفاجأة. أخبرني صديقي خالد ذات يوم بأن طوني بلير دعاه إلى زيارة بريطانيا لاستكمال الحوار في لندن وتوسيع إطاره، وأنه أكد له بأن رئيس الوزراء دافيد كاميرون موافق على ذلك وأنه تعهد بأن توفر الحكومة لخالد ومن يرافقه من إخوانه الحماية طوال وجودهم في بريطانيا. شجعت صديقي بقوة على قبول الدعوة، ولنضع طوني بلير وحكومة بريطانيا على المحك. إلا أن أوساط الحركة فيما يبدو لم تكن متحمسة لهذه المغامرة، وقدرت بأن الأجواء لم تكن مواتية. وعندما التقيت بالأخ خالد قبل أيام في إسطنبول قال لي إنه نادم على عدم قبول الدعوة، فلو أنه قبلها وتحققت فعلاً ودخل بريطانيا لكان ذلك بداية فك الحظر المفروض على الحركة ومسؤوليها داخل الاتحاد الأوروبي. ولكن قدر الله وما شاء فعل.
لماذا يا ترى لم يتعرض طوني بلير للنقد ولم تلق زياراته إلى الدوحة ولقاءاته مع خالد مشعل وقيادات في حماس الشجب والاستنكار من قبل اليمينيين وأنصار إسرائيل في بريطانيا؟ ولماذا لم ينزعج أولئك بما كان يرويه طوني بلير لمعارفه عن حفاوة الضيافة التي كان يستقبل بها في منزل خالد مشعل وعن استمتاعه بأقداح القهوة العربية وأكواب الشاي المنعنع -وغير ذلك من أطايب الطعام- على مدى ساعات من الحوار كانت في بعض الأوقات تمتد حتى أذان الفجر؟ هل يا ترى لأن زيارات بلير ولقاءاته كانت بالتنسيق مع إسرائيل وخدمة لها؟ ولماذا لم نسمع استنكاراً من اليمينيين وأنصار إسرائيل حينما أعلن بلير مؤخراً أنه نادم أشد الندم لدوره في فرض الحظر على حركة حماس في أوروبا؟
يجدر بالزعيم جيريمي كوربين ألا ينحني أمام حملات التخويف والابتزاز التي تشنها عليه هذه الزمرة من المنافقين داخل حزبه بالتواطؤ مع اللوبي الصهيوني في بريطانيا..
أتفهم تماما أن تعتبر إسرائيل حركة حماس منظمة إرهابية، فنحن معشر الفلسطينيين، بالمقابل، نعتبر إسرائيل كياناً إرهابياً. في كل الصراعات المشابهة لصراعنا، تلك هي الطريقة التي يعرف بها أطراف الصراع بعضهم بعضا، ولا حرج في ذلك. ولكن لماذا يتعرض الشعب البريطاني، بما في ذلك سياسيوه، للابتزاز حتى يقبلوا بالموقف الإسرائيلي ويتبنوا الرواية الصهيونية بشأن الصراع؟ نعم، الإسرائيليون والفلسطينيون هم الطرفان المباشران في هذا الصراع الذي ينتظر الحل، ولكن من يريد المشاركة في البحث عن حل له لا يصح منه أن ينحاز لهذا الطرف أو ذاك. ولكن حتى لو كان بعض السياسيين البريطانيين منحازين -كما هو الحال- للطرف الإسرائيلي، فلا يمكنهم بحال المساهمة في حل الصراع دون أن يتصلوا بالطرف الآخر ويسمعوا منه ويفاوضوه. وحركة حماس اليوم هي الحركة التي تمثل الشعب الفلسطيني بحق في الصراع مع الصهاينة.
خذ على سبيل المثال الصراع في أيرلندا الشمالية. كانت حكومة المحافظين في عهد ثاتشر تعتبر الجيش الجمهوري الأيرلندي IRA منظمة إرهابية لدرجة أنها أصدرت قرارا بكتم صوت جيري آدمز، المتحدث حينها باسم حزب الشين فين – الواجهة السياسية للمنظمة، واستبداله بصوت ممثل كلما أجرت معه وسيلة إعلام مسموع أو مرئي حوارا حول الصراع. ومع ذلك، تواصل وزراء ثاتشر بشكل مباشر مع زعماء الجيش الجمهوري بينما كانت رحى الحرب بين الطرفين ما تزال دائرة. وفي نهاية المطاف، توصلت الحكومة العمالية بقيادة طوني بلير إلى إبرام ما بات يعرف باتفاقية الجمعة العظيمة، ودخل أعداء الأمس في طور جديد من التعامل والتفاهم السياسي، وتركوا الصراع خلف ظهورهم.
ما يحتاجه الناس في بريطانيا هو الاتفاق على أن من حقنا أن نختلف في رؤيتنا للصراع وفيمن نعتبره على حق فيه ومن نعتبره على باطل، ولكن ينبغي ألا يسعى أي منا للجم الآخر وكتم أنفاسه وإسكات صوته، وإلا فإننا لن نتمكن بتاتاً من التوصل إلى أرضية مشتركة تمكننا من المساهمة في حل هذا الصراع الذي يتسبب بالصداع المزمن لكثير من الأطراف.
وكما كشفت في مقال سابق، لم يتردد حتى الإسرائيليون عن السعي لفتح قنوات تواصل مع حركة حماس بشكل مباشر أو غير مباشر. وإليكم النموذجين اللذين قدمتهما للدلالة على ذلك:
1) بعد شهور قليلة من صدور كتابي "حماس فصول لم تكتب" في بريطانيا (والذي يحمل في الطبعة الأمريكية عنوان "حماس تاريخ من الداخل") تواصل معي باحثون في مركز للدراسات مقرب من إحدى الحكومات الأوروبية الغربية، وسألوني إن كنت على استعداد للجلوس مع ثلاثة من كبار المسؤولين السابقين في إسرائيل، والذين يبدو أنهم قرأوا كتابي أو اطلعوا على أجزاء منه، لأشرح لهم ماذا يعني مصطلح الهدنة عند حركة حماس وكيف يمكن أن تتحقق الهدنة مع إسرائيل في أرض الواقع. كان أحد الثلاثة وزير خارجية سابق، وأما الثاني فكان رئيس هيئة أركان سابق، بينما كان الثالث مديراً سابقاً لمكتب رئيس الوزراء.
2) على مدى ما لا يقل عن أربعة أعوام من سنة 2010 وإلى أن وقع الانقلاب العسكري في مصر في سنة 2013، فوض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو ممثلاً شخصيا له للمشاركة في سلسلة من اللقاءات عقدت في أوروبا وحضرها أفراد على صلة بقيادة حماس في الدوحة وفي غزة لاستطلاع فرص إبرام صفقة هدنة طويلة المدى وإمكانية التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى والمفقودين.
يجدر بالزعيم جيريمي كوربين ألا ينحني أمام حملات التخويف والابتزاز التي تشنها عليه هذه الزمرة من المنافقين داخل حزبه بالتواطؤ مع اللوبي الصهيوني في بريطانيا. كما يجدر بالشعب البريطاني أن يسارع إلى حماية نظامه السياسي من اللوبي الذي يسعى للنيل من الأسس الديمقراطية التي بني عليها هذا النظام. كما يتوجب أيضا على منتسبي حزب العمال، وخاصة الشباب من نشطائه، أن يكون لهم صوت مسموع، وأن يتخذوا موقفا حاسما إزاء المحاولات التي تبذل للإطاحة بزعيمهم المنتخب خدمة لقوة أجنبية، هي الكيان الصهيوني.
* ترجمة خاصة لـ"عربي21"/ نقلا عن موقع "ميدل إيست آي" البريطاني.
بحثاً عن مخرج من المأزق: إسرائيل ومصر تسعيان إلى هدنة مع حماس
كيف تدمر "إسرائيل" التعليم الفلسطيني؟