كتاب عربي 21

البلد المحبوب (مقالات كالفينو -1)

1300x600

(1)


في معظم الأحوال يظل الناس داخل المكان، لكن مع الوقت يتلاشى المكان بكل ما فيه، ويجد الناس أنفسهم في فراغ مخيف أشبه بمتاهة سحرية تصيبهم بالهذيان. هذا ما يحدث كثيرا في مدينة فيليس، فأنت قد تبقى في فيليس لا تغادرها، وتقرر أن تعيش عمرك فيها. لكن المدينة العجيبة سرعان ما تتلاشى وتختفي من عينيك، تختفي الشوارع والبيوت والنوافذ المزروعة بالورود، كما تختفي التماثيل والقباب، ولا يتبقى لك إلا بعض الشوارع المتعرجة المتقاطعة الغارقة في الفراغ وبرودة الظل.. باب هنا، ودرج هناك، وحفر متحفزة لابتلاعك إذا لم تكن يقظاً، وكل الدروب تؤدي إلى نقطة عدمية في الفراغ، والطريق الأقصر والأوضح يأخذك غصباً لخيمة تاجر يطالبك دوما بما عليك من ديون، لذلك فإنك لا يجب أن تتبع الطرق التي تراها بعينيك، بل الطرق التي تراها ببصيرة خفية داخلك. فالأعمى في فيليس هو من يعتمد على عينيه، وإذا حدث ورأيت أحد الممرات مضيئاً جميلاً مبهجاً، فإن هذا الجمال لا ينبع من شيء في الممر، ولكن يعني أن فتاة مرت من هنا قبل ثلاثين سنة وهي تتبختر في رداء بأكمام واسعة من الدانتيللا، أو لأن ذلك الممر لديه مقدرة سحرية على الإشراق في لحظة خاصة هو وحده يملك مواعيدها، لذلك سرعان ما يختفي النور من عينيك، ما يختفي من ذاكرتك فلا تعرف متى حدث؟ وأين حدث؟

(2)


يحكي الرحالة ماركوبولو أن ملايين العيون تجوب شوارع مدينة فيليس، تنظر للنوافذ وللجسور المعلقة، وللأشجار المتراصة على بقايا الأرصفة، لكن العيون تظل زائغة كمن يفتش عن شيء غير مرئي في صفحة بيضاء. ويضيف ماركوبولو وهو يحكي لإمبراطور التتار قبلاي خان؛ أن المدن التي تشبه فيليس كثيرة، لكنه لم يصف تلك المدن بأنها مراوغة أو مخادعة، وأظنه كان يقصد أنها مدن عجيبة لأنها قد تختفي عن أعين الملايين التي تسكنها، بينما يستطيع شخص ما أن يراها صدفة، أو بإحساس غامض، على الرغم من أنه قد لا يكون داخلها! ربما لأن الرؤية الصحيحة لا تأتي أبدا من الخارج بل من الداخل، فما نراه في الخارج ليس إلا صورة منعكسة لما هو موجود وقائم بداخلنا، وهكذا يمكن أن نفهم سر وسحر الوطن، إنه المكان الذي نشيده بداخلنا، ونسعى لتشييده في الخارج على غرار ما نراه في داخل النفس بأحلامها وأمنياتها وقدراتها على التخيل والتفكير والبناء.

(3)


حكاية مدينة فيليس وغيرها من عشرات المدن حكاها الكاتب العظيم إيتالو كالفينو في تحفته الأدبية "مدن خفية"، أو كما ترجمها ياسين حافظ "مدن لامرئية"، لكن كالفينو لم يقصد أبداً الحديث عن مدن كثيرة، برغم عشرات الأسماء والأوصاف، لكنه كان يحكي عن مدينة واحدة في خياله، ربما تكون فينيسيا (البندقية) كما استنتج معظم النقاد، وربما تكون هافانا أو مدينة أخرى في كوبا، حيث ولد الكاتب الإيطالي، وربما تكون مدينة مشتهاة، مدينة منشودة، مدينة حلم تنتمي لخيال الكاتب وتعبر عن رفضه للمدن الواقعية التي تشردت فيها أيامه، وتشتت فيها ذكرياته وحياته، وهذا ما تدعمه حكاية مدينة زبيدة.. المدينة البيضاء المنقوعة في حليب القمر، ذات الشوارع الحانية التي تلتف على بعضها كشعيرات ذهبية ناعمة في جديلة على ظهر حسناء، وهذه المدينة تستحق فقرة خاصة نتعرف فيها على الوصف والدلالة لنقترب من فهم معنى "الوطن المنشود" وعلاقة التعارض بينه وبين "الوطن الموجود".

(4)


تقول الروايات عن تأسيس مدينة زبيدة؛ إن رجالاً من مختلف الأطياف والأفكار والأعمار ناموا ذات ليلة، فحلموا بحلمٍ واحد: أنهم شاهدوا امرأة حسناء تركض ليلاً في دروب مدينة لا يعرفونها، جميعهم رأوا الحسناء من الخلف، كانت عارية بشعرٍ طويل، واستولى عليهم جمال الرؤية، فراحوا يطاردونها وهي تعدو وتنحني من درب إلى درب حتى فقدوا أثرها، فلما استيقظوا بعد الحلم انطلقوا في الأرض القاحلة بحثا عن مدينة الحلم المجهولة، لكنهم لم يعثروا عليها أبداً، لكنهم أثناء رحلة البحث تعرفوا على بعضهم البعض، وعرفوا أنهم شركاء في الحلم، وشركاء في حب الحسناء المفقودة، وشركاء في دافع البحث عنها، وبعد وقت قصير وجدوا مدينة أخرى لا يسكنها أحد، فقرروا أن يبقوا فيها ليبنوا مدينة تشبه "مدينة الحلم". بدأ كل فرد منهم يبني على غرار الطرق التي سار فيها، وبما يتذكره من مشاهد علقت برأسه أثناء تعقبه للحسناء، وعند النقطة التي اختفت فيها فتاة الحلم، قرر كل واحد أن يسد الطرق بأسوار وجدران لكي يمنع الحبيبة المجهولة من الهرب، وهكذا خان الرجال حلمهم، وبنوا مدينتهم بما يخالف رؤيتهم؛ لأن الرغبة الفردية في اقتناص "الغواية العارية" كانت أقوى من إخلاصهم لمدينة الحلم، وكانت أهم من تعارفهم الواقعي، ومن مشاركتهم معا في رحلة البحث من أجل هدف واحد، وكانت أعظم من اهتدائهم لفكرة تأسيس مدينة تنطلق من الحلم لصناعة واقع أبعد وأقوى من الرؤية الذاتية، ومن خطوة الحلم الأولى.

(5)


روايات كالفينو ليست خيالا يخاصم الواقع، لكنها الواقع في حكاية خيالية، وقريبا أحكي لكم حكاية الناس مع بيرنيس.. المدينة الظالمة، مدينة الضآلة واللحم البشري المفروم، مدينة العدالة الزائفة وبناء السجون داخل نفوس الناس.

الرحلة مستمرة..

tamahi@hotmail.com

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع