في رواية "السيد" لأديب فرنسا الكبير بيير كورن (1606-1684م)، أو شكسبير فرنسا كما يقولون، والذي كان يعيش في حماية الملك لويس الثالث عشر ورئيس وزرائه العتيد الكاردينال روشيليو، يقع صراع حاد بين "الحب والواجب"، تمثل في شيمان مع حبيبها رودريجو الذي قتل أباها.. وانتهى هذا الصراع الهادر إلى انتصار الحب على الواجب، وغفرت الحبيبة لحبيبها أنه قتل أباها.. خصوم كورني أخذوا هذا الموقف ووضعوه على "العصب العاري" عند ريشيليو، وهو "قوة
الدولة"، ويجب أن يعلو على الدولة، ولا حتى الحب نفسه.. وأشاروا إلى أن "كورني" بذلك يعارضك ويعرّض بك، وهو بذلك "خطر على عقل الدولة"، لكن الموقف مر بسلام على كورني. روشيليو كان رجل دولة وسياسة من الطراز الأول، ويعرف متى يجمع ويطرح ومتى يضرب ويقسم.. يقول المؤرخون إن روشيليو، أو الكاردينال أحمر كما كانوا يطلقون عليه، هو مؤسس الدولة الفرنسية العصرية، وكانت فكرته الصلبة التي تسكن أعماق أعماقه هي (ضرورة ان يذوب الجميع في الدولة).
تشير الكثير من الدراسات التي تناولت موضوع الدولة خاصة في الأنظمة المستبدة؛ إلى أنه دائما ما يكون وراء قوة الدولة مجموعة منظمة قوية وصلبه وذات خصائص فريدة.. الفيلسوف الفرنسي آلان باديو (81 عاما)، مؤلف كتاب "شرنا يأتي مما هو أبعد"، أكد أن هناك عصابة تتحكم في العالم؛ تكونت من الهيمنة على رأس مال ضخم جدا، وهذه الجماعة/ العصابة تتجاوز أفق الدولة.. أي دولة (مع الاعتذار للرئيس ترامب)، ما يعني أن الموضوع ليس محليا فقط، بل دوليا وعالميا بامتياز.. ما هي الخصائص الفريدة هذه التي تتمتع بها تلك المجموعة/ العصابة؟ إنها ثابتة ومستديمة ومميزة وتفرز نفوذا سياسيا حاسما، وتشكل نواه لحشد الأعضاء الذين يشتركون في الحكم، وليس لها بناء مقيد، وتتمتع بقوة سياسية واقتصادية وامتياز ومكانة، وأخيرا مستقرة وراسخة وقاصرة على نفسها، كما ورد في كتاب الصفوة السياسية لـ"جورج لينشوفسكي"، وترجمه د. عادل، مختار أستاذ علم الاجتماع.
هذه الجماعة تسود خياراتها وقرارتها دائما في كل حالات الخلاف، وتحتوي داخلها على صفوة اجتماعية تحظى بمكانة عالية في المجتمع. وهي غالبا - مهنية - من رجال المال والأعمال إلى رجال الفكر والثقافة، وصفوة سياسية تستوعب الأقوياء من أي مجال وفي كل وقت.. إداريون أقوياء، سياسيون محترفون، فنانون ومطربون، أيضا علماء دين ومثقفون وهذه الجماعة تملك مفاتيح أبواب "القلعة"، كما يشبهها العلامة المستشار طارق البشرى، ويستحيل الالتحاق بعضويتها دون الاستجابة لشروطها وتبني خطابها والقبول بسقفها المحدد. ومن أبرز سمات هذه القلعة؛ أنه ليس لوافد غريب أن يعترف به شريكا محتملا فيها دون أن يخضع لتقاليدها وإجماعها، ويتشبع بفلسفتها وروحها.
هذه المجموعات ستحكم وتسيطر، وفي اعتقادها ويقينها أنها تعرف مصلحة عموم الشعب. والمثير أنها تحكم وتدير حتى وإن لم تكن في السلطة مباشرة، وذلك عبر شبكة مصالح وعلاقات معقدة للغاية؛ تتكون من عائلات وأفراد، ومؤسسات خاصة وعامة وشركات أعمال وإعلان، وصناعة ودور إعلام - سيكون للفضائيات دور كبير لاحقا - ستصبح هذه الشبكة ميدانا رحبا وفسيحا ومستديما للتوالد وتوارث مواقع النفوذ والتأثير، وستسيطر على جهاز الإدارة والأمن والقضاء والإعلام والدبلوماسية (يحدث هذا في دول كثيرة خاصة الفقيرة والمستبدة)، وسيكون لها امتدادات عميقة في شركات المال والإعمال، وسيكون لكل هؤلاء نواديهم ومنتجعاتهم - لاحقا - ومجموعات التفكير والتأثير السياسي السرية والعلنية.
حين قامت فكرة "إذابة المواطنين في الدولة" في الستينيات، وتم إلغاء أي تجمع أهلي أو حزبي أو مدني، إذ لا انتماء إلا للدولة ومؤسسات الدولة، انتقل
الاستبداد من شخص الحاكم بكل ما فيه إلى النظام بأكمله. وتجلى ذلك في احتكار وكيفية توزيع
القوة والثروة والنفوذ عبر نظام مترابط من العلاقات الرسمية وغير الرسمية، وإعادة توليد وصناعة هذا الاحتكار والتوزيع عبر علاقات مالية وعائلية من خلال الشركات والمصاهرات.
سيتفق كثير من المفكرين على أن فكرة الدولة الحديثة المركزية، ذات السيادة على الأرض والشعب وصاحبة الحق الوحيد في التشريع والعنف، هي التي ساعدت بدرجة كبيرة على تعظيم المستبد الاستبداد وصناعة الطغاة وإعادة توليده وإنتاجه.
فى أوروبا الشرقية نجحت الجماعة/ الدولة في تغيير لون جلدها والعودة إلى السيطرة على مقاليد الدولة والحكم، في ظل انتخابات ونظام تعددي ديمقراطي مسرحي. وفي دول أخرى، لم تكن هناك حاجة إلى تغيير لون الجلد وانتقلت الدولة/ الجماعة إلى جيل جديد داخل نفس السلالة. سيكون علينا دائما أن نتذكر فكرة "الإصلاح من داخل الكيان" التي تبناها تيار الجامعة الإسلامية؛ الأب الشرعى للتيارات السياسية الإسلامية، والتي هي أنسب الأفكار وأجداها للإصلاح والتغيير، وذلك عبر عملية طويلة الأجل لإزاحة هادئة وتدريجية وعميقة لمنظومة الامتيازات الخطيرة التي تسمح لفئات محددة بالسيطرة على مواقع النفوذ والتحكم، وذلك عبر خلفية الأفكار والقيم العليا المنتمية إلى "تاريخية الإسلام"، وهي الأفكار والقيم التي شارك في صوغها المسلم والمسيحي عبر حضور وتمثل أمين وقوي، جهدا وعطاء. ولا محل لأي مزايدة في هذا المعنى، والتاريخ شاهد على تحققه، ولن يحدث أي من ذلك إلا عبر عملية التحام واسعة بعمق الحياة الاجتماعية لتأسيس مناعة أخلاقية وتربوية صلبة في مجتمع متحلل ومترهل ومنقسم، والعمل الدؤوب على فكرة التأسيس المتين لدور "رسالي إصلاحي"، في بناء وحدة الجماعة الوطنية كرافعة كبرى للإصلاح والنهوض. يقولون إن الطبيعة الفولاذية لقوانين التاريخ لا يمكن تبديلها بين عشية وضحاها، وليس علينا طي بساط الحاضر للوصول الأهداف والغايات الكبرى؛ قبل أن يتشرب المجتمع خلاصة تلك القيم وتلك الأفكار، وتصبح كما يقول الأستاذ العقاد (1894-1964) حماية الصالح العام للأمة والمجتمع عادة يباشرها الناس عفو الخاطر، كأنهم لا يقصدونها مثلهم في ذلك مثل أعضاء البدن التي تشترك في تغذية بعضها بعضا في غير كلفة ولا روية.
وإن لم نبدأ وننهض ونفعل، سنكون للأسف مثل الدجاج الذي يفحص الأرض تحت قدمه.. محلك سر.