أعلم أنني أخوض في أمر شائك، ولكن مصلحة الوطن والسعي لبناء وطنا لكل
المواطنين أمر لا حرج فيه، فلقد ظل ملف الكنيسة مغلق ولَم يستطع أحد الاقتراب منه
لكونه مرتبط بإيمان قطاع من الشعب به، ولأنه مرتبط بمفهوم ديني لدى
المسيحيين.
ولست بصدد الحديث عن ذلك المفهوم الديني في "السر الكنسي" فهو أمر
خاص بالمؤمنين به، ولكني أرى أن الوقت قد حان لفتح ذاك الملف بشكل هادئ وبلا
حساسيات.
فبين
الحين والآخر تُصاب الكنيسة بخلاف داخلي يؤدي لشلح أحد الرهبان، ولو أن الأمر
مرتبط بالمفاهيم الدينية لوجدنا ذلك الراهب المشلوح ينزوي ويعيش حياته متعبدا
بعيدا عن الأضواء، إلا أن البعض يتعامل مع الأمر بشكل مختلف، ومن ذلك في الآونة
الأخيرة حادثة الراهب يعقوب المقاري، والذي قرر الاستقلال بكنيسته أسوة بما فعل
الأنبا مكسيموس من قبل، وهما أكبر مثالين، فالأنبا مكسيموس قد امتد بكنيسته
المتمردة على الكنيسة الأم وأصبح له أتباع في الخارج.
والأمر
ليس بغريب في التاريخ، فالكنيسة البروتستنتية خرجت من عباءة الكنيسة الكاثوليكية
كتمرد ديني ثم استخدمت سياسيا، ولكن الاختلاف في حال الكنيسة
المصرية أن الانشقاق
جاء لأسباب إدارية مشمولة، بما أشيع عن خلافات في تعاليم الكنيسة والارتباط
السياسي بالنظام.
والسؤال
هنا: هل للأمن المصري دور فيما يحدث في الكنيسة المصرية الآن؟ وبلا شك لن يكون
هناك إجابة على هذا السؤال!
من
المعلوم أن الأمن المصري يسعى للسيطرة على الكنيسة مثلها مثل باقي الأمور، وأنه
يستغل تلك الخلافات بتنشيطها لإحكام قبضته على القائمين على أمور الكنيسة، فيضمن
بذلك ولاءهم للنظام. وقد لعب الأمن دورا كبيرا في ضمان ولاء الكنيسة للانقلاب في
2013، بالإضافة لحملة الترهيب التي شملت كل المصريين تجاه الإسلاميين. وبلا شك كان
من المنطقي والمؤسف أن يشمل ذلك الترهيب المسيحيين الذين كانوا ضحية للعبة تفجير
الكنائس، التي كان للأمن الدور الرئيسي فيها، لعبة مارسها بعض أدعياء الدين بإيعاز
وتحريض من الأمن.
وقد
جاء دور الكنيسة في تأييدها لانقلاب 2013 متسقا مع دورها الذي لعبته إبان ثورة
2011 من رفضها المشاركة في الثورة، ومن المعروف أن المسيحيين الذين مثلوا كتلة صلبة
في الثورة شاركوا فيها خروجا عن إرشادات الكنيسة، أو من هم من غير أتباع الكنيسة
الأرثوذكسية.
وقد
كان ذلك الدور خلافا لدورها الوطني في عدة مواقف أكثرها وضوحا موقفها من ثورة 19
ضد الاحتلال، وموقفها من رفض زيارة القدس على غير رغبة السادات.
إن
كل ذلك ما هو إلا مقدمة لإيضاح الحال، وصولا لما يحب أن يكون عليه الحال في
مشروعنا لبناء مصر الجديدة، مصر الدولة التي يجب أن تقوم على مفهوم المواطنة التي
أهم مقوماتها هي
المساواة والعدالة، المساواة في كل شيء والعدالة للجميع أيا كان
موقفهم السياسي أو انتماؤهم الديني، ولذا يجب أن يتمتع الجميع بنظام واحد وقانون
واحد. إن ذلك لا ينفي خصوصيات الانتماءات الدينية المختلفة، وهي لا تتعدى أشياء
قليلة مثل المقررات الدينية للزواج والطلاق، والتي لا تجور على أَي من الحقوق
العامة ولا تخل بالمساواة.
ولتحقيق
تلك المساواة المطلقة لا بد من أن يخضع الجميع لقانون واحد وقواعد موحدة، منها
توحيد قانون الهيئات الدينية ونظام التبرع لها، والرقابة الإدارية والمالية
الكاملة على كل نشاطها وهيكلتها، بما لا يتعارض مع دور أي منها في أداء دورها
الروحي والتربوي، وهذا يشمل احترام دور الكنيسة في إدارة الشؤون الدينية
والاجتماعية لمتبعي منهجها اختياريا، بل يعني ضرورة أن تخرج الكنيسة من الحياة
السياسية الحزبية، بما لا يخل بحقوق أعضائها في ممارسة دورهم خارج إطار التوجيه
الإلزامي لما سمي "برعاياها"، فالجميع رعايا الدولة الديمقراطية العادلة.
إنني
لا أتحدث هنا عن وهم السادات الذي أسماه "لا سياسة في الدين ولا دين في
السياسة"، ولكني أؤكد على أهمية ألا يكون لأي سلطة دينية قدرة أو حق في
التوجيه السياسي، والفارق بين الأمرين كبير.
إن
هذا الهدف لن يتحقق إلا إذا تبناه وعمل على تحقيقه المواطنون من المسيحيين
الوطنيين من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، وأن يقر مجموع الشعب على مبدأ المساواة
والرقابة العادلة على كل الهيئات بلا أي تسييس أو أي تحزب طائفي، وحينها فقط تسقط
أحد أدوات أعداء الأمة في التفرقة بين الشعب الواحد، شعب الوطن وليس شعب الكنيسة
أو المسجد.