أسطرة الفعل
الاحتلالي وتجريده بالمطلق من عوامل الضعف والارتباك والتناقض، ثم ازدراء الفعل الوطني النضالي وتجريده تمامًا من الفاعلية والتأثير، هو مسلك شعبوي دارج، وإن كان يتورط فيه العديد من المثقفين والمشتغلين في التحليل السياسي والحديث في الشأن العام، وبعض ذلك التورط ناجم عن انحيازات سياسية أو أيديولوجية عصبوية، تجرد المختلف السياسي أو الأيديولوجي من فضائله، بل وتجعل ما هو فضائل لغيره مثالب له ونقائص في حقّه، وهكذا..
يمكن أن نفحص ذلك بملاحظة القراءات لحدثين يشهد ذكراهما الشهر الجاري أيلول/ سبتمبر، يتعارضان ويتداخلان في الوقت نفسه، أي توقيع اتفاقية
أوسلو، وانسحاب الاحتلال من قطاع غزّة، وكلا الحدثين كذلك لا ينفصلان عن لحظة الانقسام
الفلسطيني الراهنة التي أسّس لها في الحقيقة اتفاق أوسلو لا الانسحاب الاحتلالي من غزة.
الفعل المؤثّر
مثّلت اتفاقية أوسلو انقلابًا في الجوهر على مفهوم الثوابت الفلسطينية، وعلى منطلقات النضال الفلسطيني، وعلى إنجازات الثورة الفلسطينية، وعلى ما بناه الفلسطينيون من منجزات سياسية ومعنوية من بعد النكبة، لتكون هذه الاتفاقية نكبة ثانية بمعنى ما، بيد أن هذه الاتفاقية، وكأي فعل إنساني عمومًا لا يخلو من منافع لا تصلح في ذاتها منفردة للتقييم بمعزل عن الصورة الشاملة، ومن ذلك أن الاتفاقية بقدر ما وفّرت الأرضية في قطاع غزّة لتطوير قدرات
المقاومة، ولكن ذلك لم يكن بصورة مباشرة، وهو الأمر الذي لا بدّ من تفكيكه.
فاتفاقية أوسلو تضمنت نفي المقاومة نظريًّا وماديًّا، والسلطة التي في ظلّ الاحتلال لا بدّ وأن تنهض بذلك بالضرورة، وهو ما جرى فعلاً من الناحية العملية منذ قيام السلطة، أي نفي المقاومة وملاحقتها والتأسيس العملي لانقسام فلسطيني بين توجهين، إلا أن ارتطام توجه التسوية بالفشل في كامب ديفد أعاد استدعاء المقاومة من جديد التي استفادت بدورها من انعدام الوجود الفيزيائي للاحتلال في بعض المناطق، فالفضيلة في ذلك ليست لأوسلو على أي حال.
ويمكن قول العكس، إن هذه الاتفاقية ما كانت لتوقّع، لو كان الشعب الفلسطيني متخاذلاً مستكينًا، فقد جاءت بعد قليل من السنوات على انتفاضة الأرض المحتلة عام 1987، بالرغم من استعداد قيادة منظمة التحرير للدخول في التسوية منذ العام 1973، وسعيها لتوسيط النرويجيين منذ العام 1979، إلا أن النتائج لم تتحقق إلا بعد الانتفاضة الشعبية الكبرى.
تدلّ الانتفاضة على أن الفعل الفلسطيني مؤثّر حتمًا، وإن لم يكن كاملاً بطبيعة الحال، فهو متداخل مع عدد ضخم من الفاعلين الأقوى من الفاعل الفلسطيني، كالاحتلال وجملة أخرى في الإقليم والعالم، وهذا بالضرورة يعني أنّنا لا نزعم أن الانتفاضة كانت عاملاً وحيدًا انتهى بأوسلو، وأمّا خطيئة الانتهاء بأوسلو فهي ليست مشكلة الانتفاضة، ولكنها مشكلة الاستثمار السيء.
الانتفاضة واتفاق أوسلو
إنّ السؤال المطروح في هذه الحالة، أنّه وطالما أن قيادة منظمة التحرير كانت مستعدة للذهاب في هذا المسار منذ وقت مبكّر جدًّا، فلماذا لم تتمكن من تحقيق هذا "الاختراق" إلا متأخرة جدًّا؟! الإجابة ببساطة في سؤال آخر: لماذا يعطي الاحتلال الفلسطينيين أيّ شيء طالما أنه غير مكره على ذلك؟! الانتفاضة أكرهت الاحتلال على أوسلو، حتى لو انتفع الاحتلال من أوسلو أكثر مما تأذّى، حتى وإن لم تكن الانتفاضة عامل الإكراه الوحيد، ولكنها كانت عاملاً مهمًّا، ثم لمّا زال الإكراه، ها هو الاحتلال ينتقص من أوسلو من جديد في الضفة الغربية، ويعود يسفر عن نفسه مباشرة محطّمًا كلّ ما اتفق عليه، عائدًا بالإدارة المدنية وأدواتها القديمة!
لكن، وبالإضافة لذلك، يتأخّر الاحتلال في الاستجابة لما يخدمه، وينقلب على ما يخدمه، لأنّه يفتقر للقدرة المطلقة، والإحاطة الكاملة، والتدبير الدقيق، ويغصّ بالتناقضات والمزايدات، فنحن لا نقاتل إلهًا، وبالتالي ففاعليته ومهما كانت أقوى من فاعليتنا هي فاعلية ناقصة.
أثر المقاومة
في المقابل، يمكن الادعاء بأن الانسحاب من غزّة كان تأسيسًا للانقسام الفلسطيني، ويمكن الاستدلال لذلك بأن الضفة الغربية أثناء انتفاضة الأقصى كانت أكثر إيذاء للاحتلال من غزّة، إلا أنه أعاد احتلال الضفة، في حين انسحب من غزّة، فهل هذا صحيح؟!
هذا الادعاء شديد القصور والاختزال، لأنه لا يلاحظ في الأساس النظرة المتباينة للاحتلال لكل من الضفة الغربية وقطاع غزّة، فهو لديه استعداد للصبر على وقائع المقاومة في الضفة أكثر من استعداده للصبر على وقائع المقاومة في غزّة لاختلاف المكانين بالنسبة له إستراتيجيًّا ودعائيًّا وأيديولوجيًّا، لكنّ المقاومة وحدها هي التي أسقطت شعار "نتساريم كتل أبيب".
صحيح أن القاعدة المحرّرة من الوجود الفيزيائي للاحتلال، مكّنت حماس من الحفاظ على مكتسبها الانتخابي في قطاع غزّة وحده دون الضفّة، ولكن هذه نتيجة غير مباشرة، ولو أردنا استخدامها للبحث عن عوامل الانقسام، فهذا بالضرورة سيعيدنا إلى الانتخابات لا إلى الحفاظ على المكتسب الانتخابي، وإلى وجود السلطة نفسها المنبثقة عن الاتفاقية وذلك في الأساس هو ما زرع بذرة الانقسام.
ثمّ لو قرأنا الانسحاب من قطاع غزّة من بوابة الانقسام، ثم دلّلنا على ذلك بقدرة حماس على الحفاظ على سلطتها فيه من دون الضفة، وكأننا لا يمكننا أن نرى في المشهد الفلسطيني سوى قيادة فتح متحكّمة وحدها بالمشهد الفلسطيني، رغم كل سياساتها الكارثية التي أوصلتنا إلى اختناقنا الراهن، وحينئذ فأيّ مقاومة تخالف سياسات فتح، وأي نتائج منبثقة عنها، حتى لو كانت دفع الاحتلال للانسحاب، فهي بالضرورة ـ حسب هذه القراءة - مؤامرة، أو شيء من تجليات إرادة الاحتلال!
ذلك، حين معالجة الأمر من زاوية الانحيازات الضيقة، وإلا ففي الناس، من يبدو كارهًا لشعبه، مزدريًا لفعله ونضاله وإنجازاته، مؤلهًا لعدوّه، مع أن مقاومة هذا الشعب ـ منذ أن كانت مقاومته وفي كل مراحلها ومحطاتها ـ من أعظم ما فعلته البشرية، وذلك حين أخذها ضمن موازين القوى وظروف الشعب، وهذا لا ينفي أخطاء المقاومة، وأخطاء أحزاب الفلسطينيين وقياداتها، ولا المعالجات الخاطئة للكثير من الوقائع على نحو كان ينتهي إلى مصلحة الاحتلال في النهاية.