ولكن.. من هو الزعيم العاقل؟

يسلط الكاتب الأمريكي بوب وودورد، في كتابه "الخوف- ترامب في البيت الأبيض"، الضوء على زوايا وخفايا في شخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأسلوبه في الإدارة والحكم، لم يتسن لأحد معرفتها سابقا، باستثناء الدائرة الضيقة المحيطة به في البيت الأبيض، رغم أن الناس العاديين في أنحاء العالم كوّنوا فكرة كافية عن الرجل من خلال تصرفاته الغريبة وقراراته الانفعالية، وردات فعله الفجة التي لا يتحرج من إظهارها حتى على الهواء مباشرة.

كتاب "الخوف" يحاول الإيحاء بأن العالم في خطر ما دام ترامب يحتل أعلى منصب في دولة هي الأعظم قوة على مستوى العالم من الناحية العسكرية واللوجستية، وبما تملكه من أساطيل وأسلحة نووية قادرة على تدمير الكرة الأرضية. وترامب شخصية لديها طموحات خيالية، من نوع السيطرة على ثروات العالم وإخضاع جميع الدول لسيطرة الولايات المتحدة، ولولا وجود فئة عاقلة تعقلن قرارات ترامب وتشذب خياراته، حسب ما يوحي به مؤلف الكتاب، ولو تركت عملية إدارة السياسة الأمريكية لترامب، لكان العالم قد وصل إلى مأزق وجودي خطير.

يذكر، غريس هالسل، في كتاب "النبوءة والسياسة"، أن العالم في مرحلة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريغان، كان يسير على حافة الهاوية، ذلك أن ريغان كان من المؤمنين بـ"أسطورة هرمجدون" التي تقول بأن نهاية العالم ستكون في فلسطين، بواد قرب صفد يسمى بهذا الاسم، حيث ستهجم جيوش البرابرة من الشرق وتقتل اليهود إلا ثلاثة آلاف منهم، سيهبط المسيح ويخلصهم لأنهم أنقياء، وهذه المعركة يتطلب حصولها استخدام السلاح النووي بكثافة. وكان ريغان يعتقد أن المسيح سيأتي في زمن حكمه.

وربما عرف العالم مقدار جنون ترامب وريغان من خلال ما نشره كتّاب ومؤرخون عنهم، لكن زعماء كثرا لم تختلف درجة الجنون عندهم، وإن لم يجدوا من يكشف هذه الإشكالية عندهم ويوثقها بالدلائل. فلم يكن هتلر ولا موسوليني من العقلاء، وكان لديهم هوسهم الجنوني، ومثلهم بوتين ونتنياهو والخامنئي. وغالبا ما تظهر لمسة الجنون لدى الزعماء والقادة من خلال ما يسمى "جنون العظمة"، واعتقاد الزعيم أنه قادر على إعادة تشكيل العالم وفق رؤاه وتصوراته.

لكن لدى تفحص سيرة أغلب هؤلاء سنجد أنهم، قبل وصولهم للزعامة، كانوا أشخاصا طبيعيين، بل إن المراكز التي توصلوا إليها، عبر التدرج الوظيفي، وكذا النجاحات التي حققها بعضهم، في المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وحتى الثقافية والدينية، تؤشر على أشخاص طبيعيين إلى درجة كبيرة، وإن كان لبعضهم شطحات معينة، إلا أنها لم تصل إلى درجة الجنون، الذي لو ثبت عليهم لأنهى نشاطهم العام مبكرا.

تفسير ذلك، أن الجنون حالة طارئة يصاب بها الزعيم فور وصوله للسلطة، أو يمكن اعتبارها نتيجة صدمة وصوله للسلطة، ونتيجة إحساسه أنه بات يملك قوّة خارقة يستطيع من خلالها الأمر والنهي وتحقيق ما كان يعتبره حلما في يوم من الأيام. وأمام هذه الحالة يتراجع لديه العقل البارد، الذي عادة ما يكبل تصرفات الشخص بحسابات معقدة، ويجبره على عقلنة تصرفاته، خوفا من العواقب الوخيمة التي قد يتعرض لها نتيجة الخطأ في الحسابات. مقابل ذلك، يشتغل عقل الزعيم بتحرّر أكبر بعد تنحية المخاوف والمحاذير ويتعامل مع المخاطر بوصفها ألعابا، من هنا جاءت مصطلحات، لعبة الحافة، وألعاب السياسة، والسير على حبل مشدود، وسواها.

لكن هنا لا بد من الانتباه لمسألة مهمة، وهي أن قوّة الدولة، سواء في محيطها الإقليمي وبيئتها الدولية أو تجاه مجتمعها، تؤدي الدور الأكبر في مدى بروز الزعيم المجنون، والعكس صحيح. فكلما كانت الدولة التي يحكمها الزعيم قوية ومؤثرة في محيطها، برزت هذه الظاهرة بقوة، وكلما كانت الدولة ضعيفة، كان زعيمها أكثر تعقلا. ويعود السبب في ذلك إلى الموارد التي تؤمنها الدولة القوية للزعيم، ما يمنحه مساحة واسعة لممارسة سلوكيات تبدو غير منطقية.

في بلادنا العربية، انطلق الزعماء في ممارسة جنونهم من حقيقة أن الدولة" بأجهزتها الأمنية والعسكرية" أقوى من المجتمعات التي تتبع لها، وهذا ما دفع بزعماء بلادنا إلى ممارسة الجنون إلى أقصاه تجاه هذه المجتمعات، مقابل ممارسة الخضوع إلى أقصى حدوده تجاه الخارج. وإذا كانت الديمقراطيات الغربية ومراكز القوى ولوبيات المصالح كفيلة بعقلنة سلوك الزعماء لديهم، فالأمر في بلادنا مختلف، حيث لا سلطة تعلو على سلطة الزعيم، لذا فإن صيرورة الجنون تصل إلى حد إمكانية إفناء المجتمعات وتفريغ الدولة من سكانها إذا لزم الأمر.