(رؤية)
في المرة الأخيرة التي التقينا فيها قبل ثلاث سنوات تقريباً، لم أر الدكتور جلال أمين:
رأيت "الملك لير"
رأيت كهلاً محبطاً لدرجة الرضى
رأيت سجيناً بلا قضبان من سكان "مدينة أناستاسيا"
رأيت محارباً هارباً، مصاباً بخيبة الأمل
رأيت محكوماً اعترف طائعاً بجريمته حسب "قانون باركنسون"
رأيت ما حدث لمصر، وما حدث لي ولكم، ولجلال أمين
وفي المقال تفاصيل الرؤية الأخيرة، وما سبقها من أعراض وأوجاع واعترافات:
(1)
"يفتر الحب، تنهار الصداقة، ينقسم الأشقاء بعضهم على بعض، يتذمر سكان المدن، وتنشر العداوة بين الناس في بقية الأرياف، وتتوغل الخيانة داخل القصور، وينقطع الحبل الذي يربط الابن بأبيه".
قرأ جلال أمين هذه السطور في مسرحية "الملك لير" وهو في السبعين، فأثرت في نفسه بشدة، وظل طوال 13 سنة بعد ذلك يضيف إليّ وجع لير أسباباً أخرى للألم وخيبة الأمل، منها: يضعف الجسد، ويهون الطموح، ويضيع الحماس، ويغادر الأحباء، ويقترب
الموت، ولا يبقى إلا إحساس كبير وقوي بخيبة الأمل، ربما لأننا حلمنا بأكثر واثقل مما نستطيع تحقيقه خاصة مع التقدم في العمر.
(2)
يحكي جلال أمين عن أول وأعنف نوبة اكتئاب في حياته، موضحا أن ذلك حدث في النصف الثاني من الثمانينيات في عامي 19887 و1988، ويتذكر إحساس عضة الاكتئاب لقلبه عندما وصله خبر مرض صديق صباه ورحلته في
الحياة الدكتور علي مختار، حينذاك كان أمين في لندن يحضر لقاء "معايشة ثقافية" مع 20 مثقفا عربيا بدعوة من خبير النفط والطاقة البريطاني روبرت مابرو. وأثناء اللقاء الذي امتد ثلاثة أيام في مطلع عام 1987، شعر أن شيئا ما قد احترق في حياته، واشتم رائحة الحريق في قلبه طوال الوقت، حتى بعد أن عاد إلى القاهرة. ولما توفي مختار في مطلع صيف العام ذاته، شعر جلال بإحساس لم يقدر على وصفه، وكان ذلك الإحساس الرديء ينمو ويعكس نفسه على كل شيء في الحياة، فلم يعد يدرك هل تغير العالم من حوله، أم أنه هو الذي تغير وبالتالي أصبح يرى العالم بهذه الرداءة التي صار عليها. وفي محاولته لتفسير الجو المحيط، قال: لقد أوقفوا مقالي في مجلة "الأهرام الاقتصادي"، وشاع نوع من اليأس في صحف المعارضة، خاصة جريدة "الأهالي" التي كنت أكتب فيها مقالي بانتظام. وبشكل عام ساد شعور استسلامي بفقدان الأمل في إصلاح اتجاه حكم مبارك بعد خمس سنوات على اغتيال السادات، ومع الوقت سقطت تماما في هاوية سحيقة من الاكتئاب، ومهما حاولت الصعود كنت أفشل.. تنزلق أصابعي، وتنفك قبضتي ويتكرر سقوطي إلى القاع.
(3)
في خريف ذلك العام (1987) كان أمين يجلس على سريره في الطابق الثاني من بيته بضاحية المعادي، يسند ظهره ويضع أوراقا بيضاء على ركبتيه لإعادة تدقيق ونسخ مقال صحفي كتبه بلا أي حماس، لمجرد اللحاق بموعد المطبعة، وبعد أن انتهى من مهمته النمطية لم يستطع النزول إلى الطابق الأرضي؛ لأنه شعر بآلام شديدة في ساقه اليسرى، ومن هذه الساق تكاثرت الآلام والأعراض الغريبة: تقرحات غامضة في اللسان، وارتفاع في ضغط الدم، وفقدان شهية في الطعام، واهتزاز الثقة في النفس، حتى أصابته فوبيا من التدريس وصلت إلى درجة الهلع من مواجهة الطلاب، والشعور بالعجز عن الكلام، مع رغبة مستمرة في البكاء. ومما زاد الطين بلة، أن بعض الأطباء ألمحوا إلى إمكانية إصابته بالعمى نتيجة ارتفاع ضغط الدم. وفي شباط/ فبراير 1988 سقط أمين ضحية انهيار عصبي شديد.
(4)
انتهت محنة الاكتئاب بعد محاولات مضنية للعلاج في الداخل وفي الخارج، ذهبت كلها هباءً، حتى تسلل الاكتئاب من تلقاء نفسه مبتعداً عن أمين، ربما لأنه توقف عن تعاطي الأدوية وأهمل التفكير في مرضه تماماً، لكن الإحساس بخيبة الأمل ظل يلازمه، حتى كتب عنه قائلاً: الآن وقد جاوزت السبعين أشعر أنني بنيت من الآمال أكثر بكثير مما يمكن تحقيقه، وهذا الشعور يضفي على الشيخوخة شعوراً بالحزن وخيبة الأمل.
(5)
في وصفه للمدن التي زارها ماركو بولو، يحكي لخاقان التتار عن مدينة اسمها "أناستاسيا"؛ أنهارها جميعا تنبع من نقطة واحدة، وسماؤها ليست إلا طائرات ورقية، وتتوسط المدينة بحيرة ساحرة تسبح فيها نساء حسناوات يدعون الغريب العابر ليخلع ثيابه ويطاردهن في الماء، وما أن يتمكن من إيقاظ رغباته حتى يجبرنه على كبتها، وهكذا تنفجر الرغبات بين سكان أناستاسيا كل صباح، لكن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا أكثر من الإحساس بالرغبة.. إنها مدينة مخادعة، تغويك لتعمل بجهد، وتغريك بالمتع والسيادة، ثم لا تلبث أن تكتشف أنك لم تكن إلا عبداً لرغباتك وعبداً للمدينة المخادعة.
هذا ما كتبه إيتالو كالفينو في روايته المراوغة، بينما كتب جلال أمين مكتشفاً أن الرغبة التي كانت تتملك الغريب في أول المشوار وسرعان ما تضعف؛ لأنه يكتشف تفاهة الهدف الذي كان يسعى إليه، مثل الرغبة في التفوق على الآخرين، أو ادخار ثروة، أو بناء بيت ريفي أو على شاطئ البحر للاستجمام. فقد بنى أمين بيتا في ريف دهشور جنوب القاهرة، وأنفق عليه الكثير، وتعب مع زوجته الإنجليزية في تفاصيل تأثيثه، ثم لم ينم فيه ليلة واحدة طيلة 15 عاماً..! لقد ضرب أمين هذا المثال ليؤكد حكمة أخرى في مسرحية لير يقول فيها إدجار (آخر المنتصرين بعد اكتمال المآسي): أعتقد أن الآلهة عادلة؛ لأنها تحقق لنا الرغبات التافهة التي نشتهيها، ثم تستخدم هذه الرغبات نفسها كعقاب لنا.
(6)
كان أمين يعتقد أنه أقرب لإحساس الملك لير بالندم وبخيبة الامل، لكنني كثيرا ما كنت أراه اقرب إلى كورديليا، الابنة الصغرى التي دفعت الثمن ولاقت حتفها مثل أختيها، لكنها ماتت بنبل، رافضة الحياة الرديئة والموت الخسيس الذي كان من نصيب الأختين المخادعتين.. أمين كان أصغر أخوته الثمانية، وربما جعله هذا الوضع يعايش مشاعر فقدان أكبر عدد من الموتى المقربين، لذلك اعترف أن "وطأة الموت" كانت عنيفة على شخصيته في الطفولة والصبا، لكن "وطأة التعود على الموت" كانت أشد عنفاً على شخصيته في الكبر؛ لأنه تغلب على شعور الخوف من الموت، لكنه وقع أسيراً لشعور الاستسلام والاعتياد وفقدان الحماس، أو ما أسماه متلازمة "قانون باركنسون".
(7)
لا يوجد خيط يجمع بين أمين وأستاذ التاريخ البريطاني نورثكوت باركنسون الذي قدم القانون الذي ارتبط باسمه في نهاية خمسينيات القرن الماضي، وهو قانون يبدو سابقاً لزمنه؛ لأنه يشبه أمقولات التنمية البشرية، ونصائح تنظيم الوقت وعلاقتها بالقدرة على الإنجاز والقيام بالأعمال، كما أنه يمزج بين الجدية والتهكم، كما يمزج بين مفاهيم الاقتصاد وفلسفة التعامل مع الزمن. وفي معرض شرحه لإحساسه بخيبة الأمل، اعترف أمين بانطباق "قانون باركنسون" على حياته، وشرح رؤيته للقانون باعتباره تشخيصا لسلم الترقي البيروقراطي. فالموظف يصعد من منصب إلى منصب أعلى، حتى يصل إلى أعلى مستوى من "قلة الكفاءة".. أي أنه يصل إلى وظيفة تفوق إمكانياته فيسيء في الأداء، لكنه يظل محافظاً على هذا الأداء السيئ حتى النهاية. وهذا ما ينطبق على حياتنا التي نسعى فيها للصعود والترقي والبحث عن المال والنجاح والسعادة، حتى نصل إلى حلم نفشل في تحقيقه فنصاب بخيبة الأمل.
(8)
في آخر حوار بيننا تبادلنا الحديث عن حال الكتابة، وعن نوعية ومستوى الأسماء التي تجاور وتزاحم اسمه في الصحف، وعن فقدان رغبته تماما في الكتابة، ولم تكن قضية تيران وصنافير قد اشتعلت، ولم أتعرف على رأيه فيها بعد ذلك. وذات يوم، سألني زميل عن صمت جلال أمين، وعن قبوله بالتنازل عن قطعة من أرض
مصر، واستبعدت ذلك تماماً، ولم تتيسر لي فرصة لسؤاله بشكل مباشر عن رأيه، لكنني تذكرت حكاية رواها في الجزء الثاني من مذكراته (رحيق العمر) عندما وصل به الحال لاستخدام العنف ضد دبلوماسي من بنما؛ استأجر منزله ورفض أن يغادره بعد انتهاء مدة العقد، فاستعاد أمين منزله بالدم، ولم يندم على ذلك.
أعتقد أن مثل هذا الرجل لا يمكن أبداً أن يساوم على أرض أو يتنازل عن حق، وهو ما تأكدت منه بنفسي بعد ذلك.
رحمة الله على جلال أمين وعلى كل الطيبين المتمسكين بالمبادئ وبالحقوق، حتى لو أصابهم ذلك بالحزن وخيبة الأمل.
tamahi@hotmail.com