ليس بعيدا عن حالة الصراع المحموم الحالي بين
الثورة والثورة المضادة؛ أن يتم النظر لإعادة بناء الجماعة الوطنية باعتبارها ضرورة واعتبار الهروب من التصدي لهذا الواجب كالتولي يوم الزحف، فهو دور تتعاظم قيمته كلما امتد الحكم العسكري لبلادنا، وكلما تمددت مساحات الديكتاتورية داخل ساحاتنا السياسية وفي قلب مجتمعاتنا.
وفي البداية يجب أن نقرر أنه يخطئ من يظن أن إعادة توحيد صفوف الثورة
المصرية هو خيار مجموعة سياسية أيا كان وزنها. كما يخطئ من يظن أن معالجة الانقسام المجتمعي الذي مزقته السياسة هو واجب على تيار دون آخر، فذلك هو أهم واجبات الجماعة الوطنية في هذه اللحظة، والتنكر له يعد من أكبر الخطايا التي يمكن أن ترتكب في حق هذا الوطن؛ لأنها تعني التسليم بالأمر الواقع، ومباركة أن يستمر الاستبداد جاثما على صدور شعبنا وأن يظل الفساد ينهش في لحم أبنائنا!!
ولهذا ستظل "الجماعة الوطنية" هي القيمة العليا التي يسعى إليها كل مصري وطني مخلص غيور على كرامة هذا الوطن وعلى مستقبله، وسيظل تحويلها إلى "مظلة جامعة" تضم كل فرقاء ثورة يناير وكل الساعين لتحرير مصر من الاستبداد؛ هي الاستراتيجية الوحيدة الباقية والقادرة على استكمال أهداف يناير، وهي الرؤية الوحيدة القادرة على استشراف مستقبل أفضل للعيش المشترك على أرض هذا البلد دون إقصاء أو تهميش أو تخوين.
ولذلك، ستظل علامات الاستفهام تحوم حول من يصادم وحدة الشعب وقواه الحية وطموحاته في غد أفضل، في الوقت الذي لا يقدم فيه بديلا مقنعا لهزيمة الاستبداد أو حتى لاستعادة الشرعية - وفق رؤيته الخاصة - التي أصبحت أداته لتخوين كل الأطراف، في ما يشبه سلوك جماعة التكفير والهجرة التي ظهرت في مصر في السبعينيات، وكانت ترى أن كل من لم يدخلها لم يدخل الإسلام.
إن رفض وتشويه كل مشاريع الاصطفاف الوطني والمصالحة المجتمعية ولو بشكل مغلف، في ظل عدم تقديم بديل يتم التوافق عليه، إنما يعني الرضى بالوضع القائم وتسليم دفة الأمور للحكم العسكري؛ لأن الاصطفاف الوطني والوئام المجتمعي هو الاستراتيجية الوحيدة الكفيلة باستعادة أهداف الثورة وإعادة مصر لأهلها.
إن أكبر خطيئة يرتكبها أي فصيل أو رمز سياسي هو ادعاء العصمة وامتلاك الحق المطلق؛ لأن ذلك إنما يعني احتقار الآخرين وتسفيه منطقهم، وهو سلوك قد يكون طبيعيا حين يأتي من سلطة فاسدة مستبدة، أما أن يكون ذلك من جانب المعارضة المستباحة التي تتعرض لما يتعرض له المعارضون من الظلم والإقصاء، فهذا أمر في غاية الغرابة!!
كما أنه إذا كان يمكن قبول الاستعلاء من فصيل أو رمز معارض في وقت السعة، فإن ذلك لا يقبل بحال؛ حال تمكن الاستبداد وعودة الدولة الفاسدة لتتحكم في الرقاب قبل العقول والأفكار والآراء.. فكيف إذا كان الهدف هو هزيمة الاستبداد واستعادة الديمقراطية الوليدة؟!!
إن كل القوى الوطنية الشريفة، الإسلامية وغير الإسلامية، مطالبة اليوم بموقف حازم تجاه سلوك التخوين المشين الذي انتشر، كما يجب عدم الاستسلام للقوى التي تشكك في نوايا كل من يخالفها أو يعارض رؤيتها السياسية (بفرض أنها تمتلك رؤية سياسية) والنيل ممن ينتقدها أو يعارضها أو يسلك طريقا لإنقاذ البلاد غير طريقها.
ويبقى بعد ذلك باب الاجتهاد مفتوحا أمام كل الشرفاء لاستعادة ثورتهم ولتحقيق طموحات شعبهم؛ التي بات مؤكدا أن نقطة البداية الحقيقية في الطريق إليها هي إعادة رص الصفوف وتوحيد كل الجهود وتنسيق كل الأفكار، وصولا لبناء موقف جامع يليق بمصر وبثورتها العظيمة.
وفى هذا الإطار، فإنني أدعو كل المخلصين والساعين لإنقاذ بلادهم من هذه الهوة السحيقة أن يطلقوا العنان لفكرهم دون خوف من أحد، وأن يتنادوا للحوار بينهم ليلا ونهارا، ولا يتوقفوا عن تواصلهم وتلاقح أفكارهم، في سبيل الوصول لموقف جامع ننتصر فيه لثورتنا ونهزم فيه عدونا.
فلا خير فينا إذا سلمنا بلادنا وشعبنا لهذه الأوضاع الكارثية؛ ثم انشغلنا عنها بخلافات بينية لا تفيد غير المتربصين بنا وبوطننا وبشعبنا.