سبعون سنة مرت على صدور كتاب شروط النهضة، الذي أصدره صاحبه في
نوفمبر 1948م، ولا زلنا لم نتفرغ بعد لدراسته، وفهم معانيه التي لا تزال بكرا؛
لأننا مشغولون بمدى أهمية الرجل وفكره؟ هل يستحق هذه الهيلولة التي تقام له كل عام
بمناسبة ذكرى وفاته 31 أكتوبر، وهل حقيقة هو مفكر كما قال بعضهم –من الجزائريين
طبعا-؟ وهل لا يزال يستحق الاهتمام…، لأن ما أنتجه في 1948 قد تجاوزه الزمن كما
قيل في أحد الملتقيات.
بهذه
المناسبة عزم نخبة من المفكرين العرب والمسلمين والأوفياء لفكر مالك بن نبي رحمه
الله، ومنهم جزائريون، على تنظيم مؤتمر دولي خاص بفكر مالك بن نبي والفكر الخلدوني
الذي استمد منه بن نبي قوة أفكاره، في دولة قطر، وذلك في مطلع العام المقبل 2019.
وفي
الجزائر لم يُمَكَّن بعضُ محبي مالك بن نبي، من تأسيس جمعية تحمل اسمه، للقيام
بنفس الدور الذي يهدف إليه زملاؤهم في الدوحة، وغيرهم من المهتمين بهذا النوع من
الفكر.
لقد
بادر بعض محبي بن نبي منذ سنوات، بوضع ملف يطلب الترخيص بتأسيس جمعية تحمل اسم
مالك بن نبي، ولم يرخص لهم، وفي يوم دراسي نظمته جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين، بالمكتبة الوطنية –الحامة- في ذكرى وفاة مالك بن نبي، ذكر الأستاذ
الدكتور عمار طالبي في مداخلته ذلك باستنكار، وبحضور بعض المسؤولين، وبعض الضيوف
من غير الجزائريين، وأظن أن ممثل الداخلية كان حاضرا، وعاب على وزارة الداخلية هذا
التماطل والتعطيل، وبعد تلك المناسبة، اتُّصِل بالدكتور طالبي وطُلِب منه إعادة
وضع الملف بحجة أن قانون الجمعيات عدل..، ففعل ما طلب منه ونظم جمعية عامة وانتخب
مكتب تنفيذي وتقدم بالطلب ثانية، ولكنه لم يحصل على الترخيص أيضا إلى غاية هذه
اللحظة يوم 09 أكتوبر2018 على الساعة السابعة مساء.
ما
سر هذه المفارقة؟ ألأن أولئك أشطر و"أقفز" من هؤلاء؟ أم أن الدولة
القطرية أوفى للأفكار والرجال من الجزائر؟ أم أن قطر تحب وتقدر مالك بن نبي أكثر
من الجزائر؟ أم أن قطر في حاجة إلى فكر بن نبي أكثر من الجزائر؟
لا
ندري ونتمنى أن نجد مسؤولا يكشف لنا عن سر هذا الإشكال. قطر تهتم بفكر مالك بن نبي
والجزائر لا تعيره اهتماما؛ بل تعرقل من يهتم به.
ومهما
تكن الإجابة فإن تقصير الجزائر في الموضوع واستهانتها به، وجهلها أو تجاهلها له
أوضح من أن يوضح، وحتى لو سلمنا جدلا أن قطر أقفز وأوفى وأكثر تقدير لفكر مالك بن
نبي، فلماذا لا نقلدهم في ذلك؟ أم أن تقليد الفضائل عيب، والتخلف والتأخر عما تقوم
به دولة أخرى تكريما لجزائري ليس عيبا؟
أما
إذا كانت الجزائر هي الأقفز والأوفى والأكثر تقديرا لفكر مالك بن نبي، فمن الأولى
أن تنتبه الجزائر إلى أهمية الموضوع، سواء بالاستثمار فيه أو بالتشجيع على دراسته والإفادة
منها للأجيال؛ لأن الدولة التي لا تقدر ولا تحترم الأفكار ورجالها، فإن مصيرها
الفناء المعنوي؛ ثم الفناء المادي.
قلت
ومهما كانت الإجابة، فإن ما أنا متيقن منه هو أننا في الجزائر لا نعير كبير اهتمام
للمثقف الجاد والمفكر الجاد والملتزم بقضايا أمته، ولذلك أسباب موضوعية تفرضها
منظومتنا الثقافية التي لا تزال تستهين بدور المثقف وحاجة المجتمع إليه، ولأسباب
أخرى أيديولوجية عملت وتعمل على التضييق على مالك بن بني في الأوساط الرسمية بفعل
بعض النافذين من خصوم بن نبي الطبيعيين، من العلمانيين واليساريين، وبسبب مواقفه
الآنية التي قد لا تعجب بعض من بيده الحل والعقد.
وما
عانى منه مالك بن نبي في حياته، وتعاني منه أفكاره بعد وفاته، من السلوكات غير
الحضارية التي ينبغي التخلص منها، بعد مرور أكثر من أربعة عقود عن وفاته، سواء
لهذا السبب أو لذاك؛ لأن المعتبر الآن هو حاجة المجتمع لهذا الفكر الاستقلالي
الراشد، لماذا نحرم الأمة فضائل هذا الفكر، الذي غطى رقعة لا بأس بها من العالم،
ولو أننا بلغنا مستوى تلك الأفكار التي توصل إليها منذ أكثر من سبعين سنة أي قبل تأليفه
كتاب شروط النهضة لهان الأمر، ولكن نحن الآن في أمس الحاجة إليه.. وعندما نتجاهله
ونتجاهل ما أنتج من أفكار فإننا نحرم أنفسنا ونحن أولى من يحتضنه لو كنا ونسمع أو
نعقل.
كنت
أتمنى أن ننسى –نحن الجزائريون- أن الذي عرفنا بمالك بن نبي هم المشارقة أكثر مما
عرفنا به الجزائريون.. عبد الصابور شاهين المصري ترجم له، وجودت سعيد السوري كتب
عنه، وعمر كامل مسقاوي اللبناني أشرف على نشر كتبه، وعدنان سالم السوري صاحب دار
الفكر نشر له..، والرسائل الأكاديمية التي تناولته بالدراسة، الكثير منها كانت في
المشرق: العراق، القاهرة، السعودية؛ بل إن من استفاد منه على المستوى التنموي
وبناء الدولة، لم تكن الجزائر، وإنما هي ماليزيا التي تفصلنا عنها مسافة 14 ساعة
طيرانا في السماء، بواسطة الزعيم السياسي أنور إبراهيم ورفاقه، الذي كان الرجل رقم
2 في الدولة الماليزية إلى جانب محمد مهاتير، في مشروع ماليزيا 2020.
روى
لي أحد مقربي أنور إبراهيم، وهو الدكتور محمد نور منوطي، الرئيس السابق لحركة "أبيم"
وهي الحركة التي أسسها أنور إبراهيم وصحبه وهم شباب، أنهم اكتشفوا مالك بن نبي في
إحدى زياراتهم لليبيا في سبعينيات القرن الماضي أظن سنة 1972، فوقعت أعينهم على
كتاب عنوانه "المسلم في عالم الاقتصاد"، فأعجبوا بالعنوان، ورأسا أخبروا
قائدهم الأستاذ أنور إبراهيم، فقال لهم اقتنوا كل ما تجدون من كتب لهذا الرجل؛
لأنه كان يعرفه من قبل وإن لم يلتقه.
يقول
محمد نور منوطي: اشترينا كل كتبه من المعرض، ولما عدنا إلى ماليزيا خصصنا أياما
دراسية لكل كتبه، وأفادتنا كثيرا في عملنا السياسي والإصلاحي بماليزيا.
فسألته
وما هي آثار هذه الفائدة التي تتحدث عنها؟
فقال
الدكتور محمد نور منوطي: "لا أبالغ إذا قلت لك أن محمد مهاتير في كل أعماله
كان ينفذ أفكار مالك بن نبي، وكأني بمالك بن نبي يفكر ومهاتير ينفذ".
وعلى
كل حال، إن المفكر ابن العالم، وليس ابن بلده فحسب؛ لأن ما ينتجه من أفكار موجه
إلى الإنسانية كافة، وعندما نلوم قومنا ونعاتبهم على هذا الإهمال المفرط في مثل
هذه الأمور، ليس خوفا على فكر الرجل، أو على الرجل نفسه، الذي جابت أفكاره أقطار
العالم، أصدقاء وخصوما، وإنما نبكي حظوظنا التعيسة التي حرمتنا فضل احتضان هذا
الرجل وأفكاره، الذي كان يشعر بأن مكانه ليست هذه الأرض القحلة؛ بل كان يعلم أنه
ظهر في غير زمانه، وكما روت عنه ابنته رحمة، كان يقول لزوجته سيفهمني الناس بعد
ثلاثين سنة، فها هي الثلاثين أنقضت وأضيف إليها نصفها، ولكن بعض قومي لا يريدونه،
ولا يريدون سماع اسمه، ومع ذلك لا يضر بن نبي إهمال الجزائريين له؛ لأنه وجد في
العالم من يحتضنه ويثمن أفكاره فأفاد الأمة أو بعض أطرافها، فعليه الرحمة والرضوان.
عن صحيفة الشروق الجزائرية