تونس في حاجة ماسة لقيادة شجاعة ومتبصرة قادرة على نقل الحديث والفعل السياسي من مستنقع التدبير اليومي القصير النفس؛ إلى مستوى أعلى يفتح باب المستقبل. لقد بات جليا أن المنظومة الحاكمة قد استنفدت قدراتها، ولم يعد لديها ما تقدمه لشعب ثار وانتظر. مكونات المنظومة القديمة الفاشلة قبل الثورة أعادت إنتاج فشلها، وهي تجر من يقدم نفسه بديلا إلى حفرة الفشل. وقد آن لهذا أن ينتهي، فمن يقوم لمهمة المستقبل؟
إن من قدم نفسه لمهمة القيادة ملزم بكل المقاييس أن يقدم خريطة طريق له ولنا، لنكون قاعدة ناخبة. أكتب هنا عن حزب
النهضة التونسي الذي يغرق في السياسة اليومية، ويتغافل عن أن يفتح الطريق أو يعجز دونه، لكنه لا ينفك يبتز الولاءات بدموع الضحية؛ متخليا عن مهمته المستقبلية. إني المواطن المجهول الذي لا يملك إلا أصابعه على اللوحة؛ أطلب خارطة طريق للمستقبل. فهل من معلن عن فكرة عبقرية للمستقبل؟
الحاجة إلى رؤية للمستقبل
نحن في تونس نسير في الظلام ونتوهم التقدم، فلا ندري حيث نضع أقدامنا. لم يكن لنا أمل في النخبة السياسية القديمة، وريثة نظام بورقيبة وابن علي، لتقدم لنا حلولا، ولتعيد بناء بلد خربته الخطط المؤقتة. وانتظرنا من النخب السياسية التي كانت تعارضه وتعلن المبادئ الكبرى والمشاريع المتجاوز لرداءة المنظومة التي انتهت بالسقوط، ولكن ها نحن على أبواب انتخابات بعد سنة، ولا ضوء في آخر نفق الرداءة.
كان بودي أن أطلب هذه البدائل من كتلة اليسار المتحزب منها والمستقل الذي سبق الجميع في الحديث عن البدائل، لكني غسلت يدي على قبر اليسار الذي لا يزال بعد خمسين سنة من اليسار، ينبش تحت رأس
الإسلاميين ليدفنهم أحياء؛ متكفلا بكل حماس بأداء مهمة المنشار السياسي. كما سقط من كل اعتبار أخلاقي في نظري التيار الذي لا يزال يترحم على العقيد القذافي، ويصر على أن بشار السفاح هو بطل العروبة التي خسرت كل شيء. بقي أمامي أن أتحدث مع الإسلاميين، وبعض الحديث وهم يعزينا عن خيبة قادمة.
إني أنظر فأرى أن الإسلاميين، ممثلين أولا وأخيرا في حزب النهضة، يغرقون في مستنقع إدارة الشأن اليومي، ويقدمون حلولا مؤقتة وقصيرة النفس لأمور عرضية منتزعة من سياق الانهيار الشامل؛ حلولا لا تكشف حزبا قادرا على الخروج من ورطة "كل يوم ويومه"، ويستطيبون الحديث من موقع الضحية المطارد، ويحرضون على الحمدلة إذ لم نقع في حرب الكل ضد الكل، وهو الأمر الذي يكثف ظلام المرحلة ويغلق آخر نفس للخروج.
الشأن اليومي كمستنقع
كيف تسرّب وزير داخل حكومة؟ أو كيف تنصب مدير في إدارة فاسدة، أو كيف تسرب أحد الأنصار العاطلين عن العمل داخل موقع عمل لا ينتبه إليه الإعلام المعادي؟ كيف تجد فجوة في برنامج تلفزي لتقول للناس إنك مغلوب على أمرك وتطلب الرأفة؟ هذا هو المستنقع.
احتاج حزب النهضة إلى هذا المستنقع السياسي ولا يريد أن يغادره. فعندما يتكلم شخص اسمه بوجمعة الرميلي، لا وزن له في الشارع ولا في الفكر ولا في السياسة؛ قائلا إنه يُسمح لحزب النهضة بالعمل ولا يسمح له بالحكم، يرقص الإسلامي جذلا: انظروا إنهم يقتلوننا ونحن نحتاج إلى أن نتخفى كي لا نموت.
يُدفع الفرد الإسلامي ضمن خطة حزبه بخطاب الضحية إلى السطح ليقول لا تطلبوا مني معجزة، فأنا ما زلت في وضع المقهور المطارد. حتى هذه اللحظة، أنتج هذا الخطاب المسكين تلاحما حزبيا، لكنه في الأثناء أراح قيادة الحزب من التفكير في المستقبل. يكفي أن ينطق فرد معزول جملة استئصالية لتشتغل ماكينة الدعاية بالنواح. يسمح هذا أيضا بتفرغ القيادات الحزبية للتنافس الداخلي في أفق المؤتمر الحادي عشر.. مَنْ يكون مكان الغنوشي في القيادة؟ وأجزم أنها أولوية لدى قيادة الصف الأول بالحزب. كان هذا التنافس على القيادة - ولا يزال - مشروعا داخل كل تنظيم حزبي منذ نشأت التنظيمات الحزبية، ولكن مَن مِن هذه القيادات تميّز بأفكار جديدة؟ وأعني هنا مشروعا لبلاد بلا مشروع. فمعضلة هذه البلاد أن لا أحد يعدّ مشروعا للمستقبل.
وجه آخر للرغبة في توسيع المستنقع لتبرير الكسل دون وضع خارطة الطريق المنتظرة للمستقبل، هو إفراط حزب النهضة في تقدير قوة خصومه (أو أعدائه)، وهي حيلة مكملة لخطاب الضحية. ولقد رأينا أن هؤلاء الخصوم ليسوا أكثر من أصوات وقحة فاقدة للحياء السياسي، وقابلة فوق ذلك للشراء بملاليم قليلة للعب دور منشار سياسي مشابه لمنشار ابن سلمان في القنصلية، دون أن تمتلك جرأة قتلة القنصلية، فهي أجبن من ذلك بكثير.. (كثير من وقاحتها مراودة للنهضة: إن اشترونا فنحن للبيع). لكن هذه ليست دعوة لشراء الأصوات الوقحة، ولكن من الشجاعة أن لا ينفخ المرء في صورة الضفدع للتعامل معه كفيل حقيقي.
المسؤولية التاريخية
تمتلئ الساحة السياسية التونسية بالغثاء، وتظهر فيها زعامات قميئة لا تستحق الاحترام. ولقد وجب إشعارها بحقيقتها الدنيئة دون منحها وزنا اعتباريا، أو التعامل معها بصفتها رؤوسا مؤثرة فعلا في المشهد. فالرفع من قيمتها في السوق وجه من وجوه توسيع المستنقع هروبا من مواجهتها.
المسؤولية التاريخية الآن وهنا هي القول بصوت جهوري. إن تونس تحتاج إلى بديل حكم له برنامج مستقبلي، ووضع هذا البديل على الطاولة، وليس إلا حزب النهضة قادر على ذلك، وكل تردد في إعلان ذلك هو هروب من المسؤولية التي تفرضها المرحلة. التونسيون في الأعم الأغلب منهم فقدوا الأمل في التكوينات الحزبية الظاهرة، وهم وإن أنكر كثيرهم؛ ينتظرون من يتقدم للقيادة. ولا أعني بالقيادة الفوز في الانتخابات بحيلها المشروعة وغير المشروعة، والتصدر للحكم بإعادة إنتاج سياسات الترقيع المرحلية القصيرة النفس، بقدر أما أعني وضع خارطة طريق لبلد موشك على الإفلاس ويحتاج خطة إنقاذ وتقدم.
إن الفَلاَح الذي لا يقارن في بناء تنظيم حزبي واسع ومتماسك؛ يزيد من حجم المسؤولية، لكن هذا البناء المتماسك (في الظاهر على الأقل) يظل أجوفا ما لم يتم قيادة الناس إلى بدائل. وهنا سيطرح التاريخ سؤاله الكبير الممضّ: كيف ستحكم تونس في المستقبل بقطع النظر عن نتيجة الانتخابات القادمة؟ وأسئلة أخرى قبل السؤال الكبير: هل حددت حاجة الناس ومطالبهم للمستقبل؟ هل تعرف البلد بما يكفي لتحكمه؟ ماذا تقترح له؟ وعليه استنباط الحاجة بعد قراءة واقعية بعيدا عن المناكفات السياسية اليومية (المستنقع)، حيث البحث عن وضع الضحية يتحول هنا إلى عائق سياسي لذيذ يريح من التقدم، ولكنه غير منتج.
هل هذا درس توجيهي لحزب النهضة؟
مثلي وكثيرون لا يشاركون في حرب استئصال الإسلام السياسي ممثلا في حزب النهضة، لكنهم لا يقبلون الابتزاز العاطفي الذي يمارسه الحزب لكي يتقصى من مسؤولياته التاريخية إنه دعوة لتحمل مسؤولية تاريخية. ولا يقبلون بحال أن يستغرق الحزب في الرد على الاستفزاز اليومي الصادر عن المخلوقات اللاغية المنتشرة في وسائل إعلام بلا ذمة ولا وطنية.أو توهم عداوات خارجية متربصة بأساطيلها على الحدود.
مثلي وكثيرون غسلوا أيديهم من اليسار (واليسار في مطلق القول وعد بالإبداع خيب ظننا)، كما حسموا أمرهم فيمن قد يدعي تمثيل المنظومة القديمة، فما هي إلا استمرار للرداءة والبؤس السياسي، كما نفضوا أيديهم من الغرف الحزبية التي تتصدر المشهد اليومي السائد منذ الثورة. وهو ما يترك لنا رهانا وحيدا هو أن يتطور حزب النهضة إلى حزب بدائل لا حزب يبحث عن جنازة ليروي رغبته في الدموع. وهذه فرصة أخيرة في زمن لا يمنح فرصا أكثر. التحول إلى حزب حكم (ليس بالضرورة حزب حاكم) بخارطة طريق واضحة للمستقبل،
ليس ذريعة لأن تنقذ الحكومة من السقوط بصفتها جهازا مؤقتا يقي البلد كله من السقوط، بل لعله واجب مقدس، لكن ما الذي يميز الحزب المنقذ عن الحكومة التي ينقذها؟ حتى اللحظة لا ميزة فارقة، وإن كان من المعروف الإقرار أن إنقاذ الجهاز مصلحة وطنية، لكن ذلك خطة قصيرة الأمد، فالحكومة الفاشلة ستنتج حكومة أفشل منها تحت عنوان إنقاذ السفينة من الغرق.
ومع العمل الآن على إنقاذ السفينة من إعصار مؤقت، وجب (المسؤولية أمام التاريخ) اقتراح مسار نحو ميناء لا تغرق فيه السفن. هل يبدو حزب النهضة قادرا على ذلك؟ حتى الآن لا نرى ذلك، بل نرى هروبا من المسؤولية بالتخفي خلف خطاب الضحية العاجزة عن الاقتراح.
لذلك، فان هذه الورقة دعوة أخيرة للتقدم نحو تونس أخرى. يكون ذلك بالتفكير بصوت مرتفع في المستقبل: ما الذي يحتاجه البلد؟ وكيف يمكن تحقيقه بوسائل السياسية مجتمعة. إنها دعوة لتحمل المسؤولية؛ لن يعذر فيها التاريخ من أتيحت له الفرصة ففرط فيها.
اليومي ورطة، لكن المستقبل مسؤولية. كيف تدير اليومي دون التعلل به للبقاء في وضع الانكماش السياسي الذي يعاينه الجميع فيفقده الأمل؟ إنها اللحظة الفارقة لتكون دوما أو لا تكون أبدا.