خطَبَ النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمكة المكرمة خطبة جامعة مانعة؛ قال فيها: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟" (رواه البخاري). كما نظر عبد الله بن عمر رضى الله عنهما يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك (رواه الترمذي)..
هكذا فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة الإنسان المؤمن، كما رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هذا الإنسان الذي هو بناء الله في الأرض وأساس التنمية.. هذا الإنسان الذي سخر له الله تعالى ما في السماوات والأرض لخدمته، وجعل التكريم والتفضيل مكانته فقال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا" (الإسراء:70).
وهذه الآية تعكس مكانة الإنسان ومكانة الاقتصاد الذي قوامه معايش الناس، بالتوفيق بين حاجتهم المادية والروحية وما استخلفهم الله من موارد وفقا لقيم ومقاصد الشريعة الإسلامية؛ لتحقيق الرفاه في الدنيا والآخرة.. فلا اقتصاد صالح إلا بإنسان صالح، ومن هنا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بناء الإنسان الصالح، وقال قولته المشهورة لعمرو بن العاص رضي الله عنه: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" (رواه أحمد).
وقد وجدنا في زماننا هذا دولا أصابتها ليس الوفرة، بل التخمة في الموارد، فاستغلت ما استخلفها الله تعالى فيه من موارد قتلا وتدميرا، لا سلاما وتعميرا. وللأسف، يحدث هذا من بلد الحرمين ودولة الإمارات، اللذين أنفقا أموالا بسخاء للانقلاب على أول رئيس مدني منتخب في مصر، وهو الرئيس محمد مرسي، وباركا بالمال والجهد قتل المسالمين من حفظة كتاب الله في رابعة والنهضة، مساندين بمالهم وعتادهم نظاما لا يعرف سوى هدر كرامة الإنسان طريقا، وقتل الأنفس سبيلا، وحبس أنفاس البشر منطلقا، نظاما أدخل مصر في المزيد من غيابات التخلف والفقر ووهم التنمية رغم ملياراتهم، ولكنها لعنة الدماء الطاهرة التي تلاحقه وتلاحقهم.
ولم تتوقف أيادي هاتين الدولتين على ذلك، بل امتدت إلى تونس والمغرب وموريتانيا للنيل من أبناء الحركة الإسلامية فيها، وإلى ليبيا لتدميرها، وإلى أرض الإيمان والحكمة اليمن لتفتيتها، وإلى قطر بحصارها، وإلى تركيا بانقلاب كاد أن يقضى عليها، فلما فشل أعلنوها حرب اقتصادية على عملتها، ففطن الرئيس التركي أردوغان للعبة القذرة، فقام بتقديم موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولكن ما لبثوا بعدها أن عادوا لحربهم الاقتصادية المفضوحة بأموالهم المشبوهة، حتى لا تنطلق تركيا إلى حيث يريد قائدها؛ نحو العشرة الكبار عالميا في الاقتصاد.
وقد ظن هؤلاء أنهم بأموالهم يشترون الذمم ولا يُسألون عما يفعلون، فوجهوا وجهتهم نحو الرئيس الأمريكي ترامب في البيت الأبيض، ولكنه لم يشبعه الحلب المتواصل لأموالهم، ففضحهم المرة تلو المرة طالبا مزيد من الحلب، حتى باتوا يعطوا الجزية للأمريكان وهم صاغرون.
وفي ظل نشوة الانتصار والتشفي، أراد اللهم لهم فضيحة كبرى صنعتها أيديهم على رؤوس الأشهاد.. فضيحة ليست فضيحة بقدر ما هى جريمة يشيب منها الولدان.. إنها حادثة سيكتبها التاريخ.. حادثة الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي. فقد دخل القنصلية
السعودية في إسطنبول الصحفي الخلوق جمال
خاشقجي.. هذا الصحفي ذات الفكر المعتدل والاختلاف الذي لا يثير خلافا.. دخل في أمان قنصليته لقضاء معاملاته، فتربصوا له استدراجا، وشارك خمسة عشر مجرما في قتله والتمثيل بجثته بواسطة طبيب شرعي فاجر، فغابت عنهم حتى أخلاق العرب من أهل الجاهلية، وانتهكوا حرمة جمال حيا وميتا وهم يقطعونه إربا في ظل سماع الموسيقي، التي يحرمها علماء السلطة في السعودية ثم يبررون للحاكم المجرم فعلته حتى لو زنا أو قتل أمام أعين الناس في الفضائيات!
لقد أثارت تلك الحادثة الفظيعة كل إنسان في الأرض، وتعرى حكام المملكة وولي أمر الشيطان فيها؛ الذي يعبث في الأرض فسادا ورقصا وقتلا وغرورا وعقلا مهجورا، كما تعرى معه شيطانه الأكبر الإماراتي وصبيه المصري.
إن المنطقة بعد تلك الحادثة الشنيعة لن تكون كما قبلها، فالإنسانية في الشرق والغرب تقف ضد هذا الإجرام وتدينه بشدة، ولن تتركه يمر بدون حساب. وهنا يجب أن نفرق بين أرض الحرمين أرضا وشعبا، وحكاما، فالأرض مباركة، وهي قبلتنا وسر حياتنا وهوى أفئدتنا. والشعب هو شعب في جله طيب كريم، أما الحكام فقد افتروا ولم يحفظوا النعمة، فحبسوا العلماء وقتلوا المسالمين الأتقياء، وألبسوا شعبهم ثوب الخوف ونزعوا من قلبه الأمن، وزادت أرصدتهم المصرفية على حساب شعبهم الذي يعاني ويلات الفقر والبطالة والطبقية.
إن تعرى الكعبة في عهد ابن سليمان نذير شؤم، وحبسه العلماء نذير انتقام، وقتله جمال خاشقجي والتمثيل به سيكون نذير نهاية مؤلمة وغضب ولعنة من الله؛ يحيط بجوانب تلك النفوس القاتلة، ونزع للبركة، وإصابة للاقتصاد بمرض عضال بدت نواجذه، لا سيما ودول العالم انسحبت تباعا من مؤتمر دافوس الصحراء، مع فرار رؤوس الأموال كالفرار من المجذوم، وانعدام الثقة، وسيادة الخوف، وهذا نتاج طبيعي لقوله تعالى: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابا عَظِيما" (النساء: 93).
إن الله تعالى يقول: "مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا" (المائدة: 32)، فكيف بمن مثل بالجثة وقطعها إربا؟!..
اللهم ارحم شهيد الكلمة جمال خاشقجي، وشهداء رابعة والنهضة واليمن وليبيا، وانتقم ممن ظلم وقتل، واحفظ بلاد الحرمين، وخلصها ممن يخون رسالتك فيها.