في كل حدث تخرج بيانات لجماعة
الإخوان تحدد مواقفها، ولكن في أحوال كثيرة، فإن تلك البيانات لا تملك أدوات التأثير. والجماعة في هذا الأمر لا تنفرد بذلك، ذلك أن القوى السياسية المعارضة الأخرى لم يعد في طوقها إلا أن تصدر مجموعة من البيانات. ومع ذلك، فإننا نؤكد أن صدور بيانات يمكن أن يكون له من التأثير لو أحسن صياغتها واختيار توقيتاتها، وقدمت رؤية واقعية لا تحاول أن تسبح في الخيال أو تواجه الأمر بأشكال مسبقة جامدة، وذلك في إطار الضغط على المنظومة الانقلابية، والقدرة على أن تشفع تلك البيانات بحملات إعلامية متراكمة ومواقف داعمة، وقدرة على جعل القضية
المصرية على أجندة المجتمعات الأخرى بعد أن أهملت وقتا طويلا.
ولا شك في أن دراسة ياسر فتحي التي جعلت من مادة البيانات الرسمية ساحة للبحث، خاصة بعد انقلاب العسكر، والتي أشارت إلى بيانات تتعلق بقضية الشرعية إنما تشكل في حقيقة الأمر رؤية لا تزال تقوم على افتراضات وتصورات لا تملك أي وسائل مادية لإسنادها على أرض الواقع، رغم أنها تسبب حالة استقطابية كبيرة بين القوى السياسية المختلفة. وإن المسألة التي تتعلق برد مسألة الشرعية إلى الشعب إنما تشكل أساسا مهما ومكينا ينصرف في الأساس إلى الارتباط في استعادة المسار الديمقراطي.
يؤكد الباحث في مفتتح دراسته ازدياد الحاجة يوما بعد يوم لدراسة وتحليل مواقف الفاعلين السياسيين في مصر، مع تعثر الانتقال نحو الديمقراطية، وتحول الفاعلين السياسيين إلى حالة الجمود والعجز عن الفعل؛ بسبب عودة الممارسات القمعية وقوة السطوة الأمنية. يأتي هذا البحث كمحاولة للاقتراب من جماعة الإخوان المسلمين، من خلال بياناتها الرسمية خلال الأزمة المتعلقة بإعلان وزير الدفاع يوم الثالث من تموز/ يوليو 2013 عن فرض واقع سياسي جديد رفضته الجماعة رفضا قاطعا، وأعلنت رغبتها في إنهائه وتصحيح الأوضاع، مع حرص النظام الجديد على فرض واقعه على الأرض بالكثير من الإجراءات الأمنية القمعية، رغم استمرار قوة حشد الجماعة لأنصارها المحتجين الرافضين. ويحاول الباحث الاقتراب من العقل السياسي للجماعة خلال هذه المرحلة وكيفية تعاطي الجماعة مع الأحداث، ومعرفة نظرة الجماعة لحل الأزمة، من خلال بيانات الجماعة الرسمية.
التساؤل الرئيس إذن يتعلق برؤية جماعة الإخوان المسلمين تجاه حل الأزمة السياسية في مصر منذ الثالث من تموز/ يوليو، وما مرتكزات هذه الرؤية؟
(بحث في تحليل نص ومضمون البيانات الرسمية للجماعة منذ 2 تموز/ يوليو 2013 حتى 16 آب/ أغسطس 2014).
تفرع عن هذا السؤال الرئيسي الذي اعتمده الباحث، إلى مجموعة من الأسئلة الفرعية المهمة، أهمها ومفادها:
- ما موقف الجماعة تجاه بيان الثالث من تموز/ يوليو وما ترتب عليه من إجراءات سياسية وأمنية؟
- ما موقف الجماعة من السياسيين أو المدنيين الذي شاركوا أو أيدوا بيان الثالث من تموز/ يوليو وما ترتب عليه من إجراءات سياسية وأمنية؟
- ما موقف الجماعة تجاه المؤسسة العسكرية؟
- ما موقف الجماعة من شخص عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع آن ذلك؟
- كيف تنظر الجماعة لنفسها ولأنصارها وأنصار الرئيس محمد مرسي؟
- ما أبرز مطالب الجماعة الأساسية؟ وما ورؤيتها للحل؟
- ما أبرز الوسائل التي اعتمدتها الجماعة في التعبير عن رؤيتها؟
قام الباحث باستقراء البيانات الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين في الفترة من الثاني من تموز/ يوليو وحتى السادس عشر من تموز/ يوليو عام 2013، تمكن الباحث بيان رؤية جماعة الإخوان في النقاط الآتية:
- ما حدث هو انقلاب عسكري بدعم وتحريض من سياسيين وانتهازيين ومصالح خارجية، على الرئيس المنتخب والمسار الديمقراطي ومؤسساته المنتخبة.
- الجماعة لها الحق الشرعي في الدفاع عن الرئيس المنتخب والمسار الديمقراطي، وهي ترفض كل الانتهاكات والتجاوزات، وكل ما ترتب على هذا الانقلاب من إجراءات وآثار.
- ستركز الجماعة على التظاهر السلمي الاحتجاجي كوسيلة أساسية في كافة المحافظات والميادين، إضافة إلى اعتصام رابعة والنهضة، لاستعادة الشرعية وإنهاء الانقلاب.
- التأكيد المستمر على رفض واستنكار ممارسات القتل والتعذيب والاعتقال، وعزل الرئيس، ومحاولة فرض أمر واقع جديد بالقوة.
- رأت الجماعة أن الانقلاب يهدد بانقسام داخل الجيش وداخل المؤسسات انحيازا أو ردا للشرعية، وتصحيحا للأوضاع، وربما كان هذا هو الأمل الذي يتوّج جهود الحشود الشعبية السلمية.
- جماعة الإخوان المسلمين تقبل بالحوار والمصالحة والوطنية بشرط وحيد أساسي، وهو عودة الرئيس المنتخب للحكم وإنهاء الانقلاب وما ترتب عليه من آثار.
- ربما اعتقدت الجماعة أن الزخم الدولي، وطلب أوباما آنذاك مراجعة المساعدات لمصر، والزيارات الدولية لمسؤولين غربيين وعرب، وزخم استمرار الحشود الشعبية السلمية، يجعل الجماعة في وضع قوة، وأنه يمكنها استعادة الشرعية أو التأثير على الجيش لتصحيح الأوضاع.
هذه الرؤية والمرتكزات لم تكن كافية لاستعادة شرعية الرئيس مرسي أو المسار الديمقراطية، ونجح النظام أثناء حرص الجماعة على ثبات مواقفها ووسائلها الاستراتيجية؛ بتثبيت واقع جديد كل يوم، وتوجيه ضربات دموية قمعية مؤلمة للجماعة وأنصارها، دون أن تكون الجماعة قادرة على تغيير استراتيجيتها أو أهدافها، أو وضع أهداف ممكنة التحقيق، مما شجع النظام أكثر فأكثر على المضي قدما في مسار القمع إلى نهايته.
رأت الجماعة نفسها مدافعة عن شرعية الرئيس المنتخب ومكتسبات ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومقابل ذلك، تتعرض الجماعة وأنصارها وغالبية الشعب المصري للقمع الشديد والانتهاكات البشعة غير المسبوقة، نتيجة الانقلاب على هذه الشرعية. وأكدت الجماعة أنها وغالبية الشعب ثابتون ومتمسكون بذلك، وأنهم حتما سيستعيدون هذه الشرعية وينهون الانقلاب وآثاره.
وتداخلت أهداف الجماعة ومحاولة تقديم رؤية لحل الأزمة، حيث تدور جميعا حول أن يعود الرئيس مرسي أولا (دون أن تمتلك الجماعة قدرة على تحريره أو إجبار محتجزيه على إطلاق سراحه)، وينفذ هو بنفسه خريطة الطريق التي وعد بها قبل الثالث من تموز/ يوليو، مما جعل موقف الجماعة يتميز من جانب بالصلابة والقوة، لكنه من جانب آخر يتميز بالجمود وعدم مواكبته للواقع؛ وعدم قدرة الجماعة على تحقيقه أو الاقتراب منه، بل أصبح سببا في تلقي الجماعة المزيد من الضربات والانتهاكات القمعية الشديدة، دون قدرة الجماعة على تحقيق أي تقدم في مطالبها وأهدافها.
واعتمدت الجماعة حينئذ على وسيلة رئيسة في تحقيق هدفها، وهي وسيلة حشد التظاهرات الشعبية في مختلف المحافظات، إضافة لاعتصامي ميدان رابعة العدوية ونهضة مصر، وبدا أن تلك الوسيلة هي وسيلة احتجاجية للتعبير عن الرأي والغضب، وتوجيه رسائل عن حجم أنصار الشرعية، ولكنها لم تكن وسيلة مغيرة بذاتها للواقع المفروض على الأرض، أو قادرة على عرقلة ما يتم فرضه على الأرض، أو مساهمة في تحرير الرئيس المحتجز، أو قادرة على فرض واقع جديد على الأرض.
هناك درس مهم، أن الحفاظ على الديمقراطية يتطلب أكثر من الحشود الشعبية والخطابات العامة ودعوات الحوار ورجاء الالتزام بالدستور، أو تمني دعم الجيش للشرعية الدستورية، بل تحتاج جهودا غير تقليدية على مستوى التحالفات السياسية المتينة، وقطع الطريق على العسكريين، والقدرة على كشف المخططات الكبرى مبكرا، وخلق كوابح مجتمعية وإعلامية وسياسية ودولية لتحركات الجيش. ويتطلب كل ذلك قدرا من التقدير الدقيق والمبكر للموقف، وتحديد أهداف واستراتيجية ممكنة التحقيق مع اختيار وسائل ملائمة لتحقيق الأهداف. ويتطلب ذلك أيضا إتقان فن المناورات السياسية في التوقيت المناسب، كل ذلك قبل الرهان على الرصيد الشعبي ودعم الأنصار؛ في بيئة محفوفة بالمخاطر ومهددة بالحصار والقتل والمطاردة والتنكيل بلا كابح.
لا تشكل هذه الملاحظات أي تبرير أو تقليل من فداحة التعثر الديمقراطي، أو تقليل من مسؤولية المؤسسة العسكرية وعبد الفتاح السيسي ومن أيد هذا المسار ودعمه وموّله؛ عن تعثر الانتقال نحو الديمقراطية، وترسيخ الاستبداد بالدم والانتهاكات والاعتقالات والتعذيب، وكل أساليب القمع الوحشية. وكل أخطاء المنادين بالديمقراطية لا يمكن مساواتها أبدا بقطرة دم سُفكت ظلما لقتل تطلعات الشعب في الحرية والعيش الكريم، ولكن ذلك يجعل دافع البحث والتقييم والتقويم أكثر ضرورة؛ ليكون الفاعلون السياسيون أكثر وعيا في إدارة تلك المعارك. فهل يفتح الجميع بشجاعة باب التقييم والتقويم والمراجعات، وعينهم على المستقبل وتطلعات وآمال الشعب المصري في الحرية والعدالة والعيش الكريم؟
هذا نموذج من الدراسات التي تقوم على تحليل خطاب بيانات الإخوان التي تشكل فرصة لمتابعة وتراكم دراسات بحثية أخرى، في فترات زمنية مختلفة ومتنوعة، تقوم على مراجعة موضوع البيان ومفرداته المستخدمة والمواقف الفاعلة، وهو أمر - على ما نرى - تفتقر بعض بيانات الإخوان إليه عند استشرافها لبعض القضايا. ولعل ذلك البيان الذي صدر بصدد "قضية خاشقجي" إنما يعبر عن نمط من البيانات يمكن أن تحدث أثرا سلبيا أكثر مما تحدثه من آثار إيجابية؛ إما لعدم اختيار التوقيت المناسب أو لعدم تدبيج الموقف الملائم أو عدم استخدام مفردات موفقة. ولكن في التحليل الأخير في بعض الأحيان؛ قد يكون في السكوت سعة، وهو أمر يجب أن تجعله جماعة الإخوان ضمن خياراتها حتى لا تقع في المحظور، خاصة أنها كجماعة ليست مطالبة بأن تدلي بدلوها في كل أمر يحدث من حولنا. نظن أن هذا الشأن مما يستحق المراجعة والنقد الذاتي الذي تفتحه مثل هذه الدراسات وتحليل الخطابات والتصريحات، وهي وسائل وأدوات منهاجية معتمدة في هذا المقام، لا أقوال مرسلة ولا مجرد أراء مسيسة.