أثار توقيع شركة غاز الشرق
المصرية مع شركتي "ديليك"
و"نوبل إنرجي" الإسرائيليتان؛ اتفاقا لشراء حصة بنسبة 39 في المئة من خط
أنابيب شركة غاز شرق المتوسط، الكثير من الشجون الممزوجة بالتساؤلات، ليس فقط حول
العلاقات الاقتصادية بين مصر والكيان الصهيوني، بل أيضا عن الصورة المستقبلية لشكل
وأطر التعاون بينهما، وما يمكن أن تفضي إليه في المستقبل.
عندما
أراد نظام مبارك
التطبيع مع الصهاينة، كانت المعارضة قوية، حتى وُصف المطبعون
بالخونة، ولجأ النظام إلى البوابة الاقتصادية وعبر اتفاقية عرفت بالمناطق الصناعية
المؤهلة (الكويز)، والتي خلقت مصالح بين طبقة من رجال الأعمال الذين قبلوا
بالتطبيع؛ وبين نظرائهم من الصهاينة. واليوم تمددت العلاقة وتطورت لأكثر من مرة،
حتى بات كل المنتفعين يتغنون بأفضال الاتفاقية وحسن تدبير من قام عليها.
أما
اليوم، فلدينا بيان صادر عن بورصة تل أبيب حول الصفقة، ما يوضح أن العلاقات تخطت
حدود التطبيع إلى مناطق أكثر توغلا وحساسية.
عموما،
وطبقا للبيان، فإن المشترين سيدفعون 518 مليون دولار، وتساهم "ديليك"
و"نوبل" بـ185 مليون دولار لكل شركة، وسوف تقوم شركة غاز الشرق بدفع
باقي المبلغ. وطبقا لوكالة أنباء بلومبرج، فالاتفاق يمنح المشترين الحقوق الحصرية
لتأجير وتشغيل خط أنابيب غاز تحت البحر الذي تمتلكه شركة غاز شرق المتوسط، والذي
يربط جنوب
إسرائيل بشبه جزيرة سيناء. وسوف تستخدم الشركتان الإسرائيليتان
الشريكتان في تطوير حقلي ليياثان وتمار؛ خط الأنابيب في تنفيذ اتفاق تم توقيعه في
شباط/ فبراير الماضي لتصدير 64 مليون متر مكعب من
الغاز إلى مصر على مدار 10 سنوات.
وفي
البداية، تجب الإشارة إلى أن البيان صادر من تل أبيب وليس من القاهرة، والتي ربما
تهرب من التساؤلات والتفاصيل، كما يجب التذكير بأن اتفاق الغاز مع إسرائيل غير ذي
جدوى اقتصادية. فطبقا لتفاصيل التعاقد سيكون سعر استيراد ألف قدم مكعب في حدود ستة
دولارات، يضاف إليها من دولار ونصف إلى دولارين للتسييل، علاوة على دولار آخر
للنقل إلى أوروبا، لتصبح التكلفة الإجمالية حوالي تسعة دولارات، مقارنة بسعر
يتراوح بين أربعة وسبعة دولارات للغاز الروسي واصلا أوروبا.
أيضا
توجد العديد من التساؤلات حول الاتفاق، من بينها: لماذا يوجد وسيط في الصفقة، وهو
شركة الشرق؟ ففي الماضي كان يمكن أن نفهم وجود شركة حسين سالم كوسيط؛ لأن هناك
بقية من حياء عند النظام، فيضطر للتستر خلف شركة خاصة، مقابل عمولات للشركة، وقد
تكون العمولات لنافذين في النظام، أما اليوم فاللقاءات المصرية الإسرائيلية معلنة
وعلى أعلى المستويات، فلماذا الوسيط ودفع عمولات، خصوصا أن التعاقد بسعر أعلى
كثيرا من الأسعار العالمية؟ فإذا كان النظام فعلا يستهدف المصلحة الاقتصادية للشعب،
فكان لزاما التداخل المباشر مع الصهاينة وبدون وسطاء، خاصة أن عقوبات التحكيم تقع
على الدولة والشعب وليس على الشركات الخاصة.
وكذلك
لم نفهم لماذا ألزمت السلطة المصرية نفسها تعاقديا بسعر معين، ولم تجعل السعر
العالمي هو المحدد الرئيس للسعر. فعندما بعنا سابقا لإسرائيل حددنا أسعارا أقل من
الأسعار العالمية، واليوم عندما نشتري غازا - هو ملكنا أساسا - نشتريه بأعلى من
الأسعار العالمية! أيضا، لماذا نلتزم بمدة طويلة للغاية هي عشر سنوات، في الوقت
الذي تبشرنا فيه الحكومة بقرب الاكتفاء الذاتي، وتحاول أن تقنعنا بأن الاستيراد من
إسرائيل لأغراض إعادة التصدير وليس للاستهلاك المحلي؟
عموما،
وبغض النظر عن موضوع الغاز وتفاصيله، فقد بات من الواضح أن التعاون الاقتصادي مع
الكيان الصهيوني قد انتقل من خانة التطبيع إلى مربع التشاركية، وذلك يعني ربطا
للمصالح بين الطرفين، فإن تضررت مصلحة أحدهما حتما سيتضرر الآخر، مما يجعل من
الدفاع عن مصالح الآخر أمرا منطقيا بل وبديهيا.
وعلى
سبيل المثال، الغاز الإسرائيلي (بفرض أنه إسرائيلي وليس مصريا) الذي سيمر عبر
الأنابيب المصرية، حتى يذهب لمحطتي التسبيل في ادكو ودمياط، من المنطقي أن يحافظ
الشريكان على استمرارية التدفق والإنتاج، بل وعلى فتح الأسواق للمنتج المسال
وتأمينه حتى موانئ الوصول، مما يتطلب تعاونا يتخطى الحدود الاقتصادية والجغرافية
إلى النواحي الأمنية واللوجستية.
وكذلك،
ليس من المستبعد أن نجد في يوم ما عمال المحطتين يتظاهرون من أجل استمرارية وتطوير
التعاون مع الكيان الصهيوني الذي أصبح مصدر دخلهم، بل ويصطفون في الشوارع انتظارا
لزيارة رئيس وزراء الكيان، رافعين لافتات للترحيب به أو مطالبين بالمنح وعلاوة عيد
العمال.
ليس
هذا ضربا من الخيالات، ولكنه التطور الطبيعي لمضمون عملية بدأت بالتطبيع، وانتقلت
إلى مرحلتها الثانية بالتشاركية وترابط المصالح، وحتما ستنتهي بالانسحاق والتبعية
الكاملة.
فطن
الفلسطينيون إلى خبث التوسعة الاقتصادية عليهم من الجانب الصهيوني في أعقاب
انتفاضة الحجارة، وأفشلوا محاولات الصهاينة الرامية للربط الاقتصادي والمصلحي مع
ثوابت القضية الفلسطينية.
والسؤال
المهم هنا: هل ينزلق المصريون إلى هذا الفخ، خاصة أن الأمور باتت واضحة، وخطوط
الصفقة الكبرى ترسم بعناية، لتستبدل المصلحة الاقتصادية بتصفية القضية، في ظل
تواطؤ الحكام والنخب، وتكميم أفواه الداخل، وتآمر دولي غير مسبوق؟
الأمر
تخطى حدود القضية الفلسطينية إلى الأمن القومي المصري، والذي بات مخترقا عسكريا من
خلال الطلعات الجوية الإسرائيلية في سيناء، واقتصاديا من خلال صفقات مشبوهة غير
ذات جدوى، ولقاءات سافرة بين القيادات، وأحاديث عن التعاون المشترك نفهمها المصير
المشترك.
العرب
الآن جميعهم في ساحة المعركة، وبعضهم بدأ النزال، ولا يزال المصريون علي فوهة
المدفع، وأغلب الظن أنهم بتراثهم الحضاري ووعيهم التاريخي؛ لن ينزلقوا إلى حيث
أراد المتصهينة.