ليست معركة، ولكنه اختلاف في الرؤى ينتج اختلافا في الوسيلة، فينتج اختلافا في النتيجة. المغرب الإسلامي مؤهل للنهوض بالأمة قبل جناحها الشرقي، ويحتاج الأمر إلى إعادة تسمية الأشياء بأسمائها الحق. المغرب الإسلامي يتقدم وينتج تجربة سياسية واعدة؛ بديمقراطية سياسية قوية، وبنهوض اقتصادي فعال ضمن نهضة فكرية مستنيرة. هذا تحليل وليست بشارات صوفية.
المغرب الإسلامي، أو الغرب الإسلامي، أو المغرب العربي، أو المغرب الكبير.. أقلل من أهمية التسميات حتى لا ينجر الحديث إلى تفريع أيديولوجي سخيف.. أعني هنا بلدان المغرب العربي الخمسة، وربما أضيف إليهم جيرانهم من المسلمين الأفارقة في السنغال وبجوار نهر مالي. لقد كانت لهذه البلدان تجربة تاريخية مختلفة عن عرب المشرق خاصة، ومسلميه عامة؛ أثمرت تراثا فكريا وفقهيا وسياسيا مختلفا. ويبدو أن هذا التراث لا يزال يؤثر في الحاضر بشكل مصيري، وقد بدأت النتائج تظهر بعد الربيع العربي.
تراث فكري وفقهي مختلف عن المشرق
بقي من الإسلام في المغرب الإسلامي مذهب واحد، هو المذهب المالكي، وطُرد التشيع، بل سحق سحقا بعد تجربة قصيرة. توجد الآن وحدة مذهبية تقوم حاجرا ضد كل الصراعات المذهبية في الشرق، وخاصة ضد التشيع الذي لا يفلح في العودة إلا متسللا كاللص. فالوحدة الفقهية قامت حاجزا مانعا ضد تسرب الفقه التكفيري في المغرب الإسلامي، فلم تجد الوهابية لها مكانا إلا على شكل مجموعات إرهابية متواطئة ضد مصالح بلادها (في الأقطار الخمسة).
تراث الفقه الإسلامي في المغرب يغلب عليه الاجتهاد المتسامح في الأحكام، وفي التعاطي مع التشريعات الوضعية المفيدة، مثل تشريعات الضمان الاجتماعي، حيث قُبلت ونُفذت. ويتمتع مواطنو البلدان بتغطية اجتماعية تدار من قبل الدول، ولا تتناقض مع روح الشريعة الإسلامية العطوفة على الفقراء (حيث لا يتناقض الضمان الاجتماعي مع فقه الزكاة). لم يطرح أحد في المغرب تطبيق أحكام الشريعة الحرفية، بل رفض ذلك رفضا قطعيا.
تراث الأدب والشعر كان نقديا منذ كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، والكم الإبداعي مختلف عن المشرق، وتجارب التحديث الأدبي عرفتها البلدان الخمسة قبل بلدان الشرق؛ اللهم إلا لبنان الحديث، حيث كان للمسيحيين دور تجديدي كبير لم يجد له صدى في المشرق أكثر مما وجد في المغرب الإسلامي. كان أهل المشرق يرددون أن بيروت تطبع وبغداد تقرأ، لكن لا أحد انتبه إلى كم القراءة في المغرب الإسلامي. المغرب الإسلامي يقرأ من بيروت والقاهرة وبغداد، وقد يشهد الكتاب المشارقة يوما عمن يقرأ لهم فعلا.
منذ جامعة الزيتونة وجامعة القرويين، ومنذ الأندلس، تراكم تراث فكري ونقدي كبير، ليس أقله ابن رشد وابن خلدون.. لم يذهب سدى، بل أسست عليه نهضة فكرية تتجسد خاصة في كتاب أقوم المسالك لخير الدين التونسي. وليس صدفة أن الفكر القانوني العربي بدأ بالدستور التونسي سنة 1864، وبنص تجريم تجارة الرقيق في تونس. ويمكن أن نعدد الأمثلة، لكن المقال يشير ولا يعدد.
تجربة سياسية ديمقراطية
يسألنا المشارقة عن سر نجاح التجربة التونسية بعد الربيع العربي، ومع التواضع الضروري نوسع الإشارة إلى التجربة المغربية والجزائرية والسنغالية.. الديمقراطية في المغرب الإسلامي تتقدم بخطي بطيئة نعم، ولكن ثابتة. النموذج التونسي درس مهم، والإنجازات الاقتصادية التي نشأتها في المغرب ليست هينة. قد نجد بعض العيب السياسي في التجربة الجزائرية بعد حرب أهلية مدمرة (بعد تسرب فكر وهابي)، لكن حفاظ الجزائر على سياديتها والتزامها القومي ليس محل جدال، ولا نجد له مثيلا في المشرق. فلم يدخل معارض للجزائر على دبابة أمريكية ليستولي على روح شعبه.
الأحزاب الإسلامية في المغرب الإسلامي إحدى عناوين التميز والنجاح السياسي. إن قدرتها على التعاطي مع الواقع عبر الاجتهاد في نصوصها المرجعية؛ جعلت التجربة السياسية الديمقراطية تتقدم وتنتج أنظمة مستقرة لا يمكن اختراقها بسهولة، بل إن الاختراق الوحيد الذي نشاهد يأتي من الشرق؛ بإفساد الوضع الليبي وتخريبه بأموال وأدوات شرقية عربية.
وحتى لا يصير المقال دعاية غير واقعية، نقول إن الوضع السياسي في المغرب الإسلامي ليس ديمقراطية كاملة، ولكنه يسير على طريق الديمقراطية منذ سنوات، وقد أسس لذلك رغم تراث الدكتاتورية البغيض. والمقارنة تبين الفارق، فلم يعد ممكنا انجاز انقلاب عسكري في المغرب، ولا يزال الاحتمال واردا في المشرق. لم تهدر الثروات الطبيعية بمثل ما أهدرت في المشرق. نسب الأمية منخفضة جدا، والجامعات تنتج كفاية بلدانها من الكادر الوطني، وتنبغ فيها أسماء مفكرين محترمين في مجالات كثيرة. ونذكّر فقط بحجم المتعاونين الفنيين في بلدان الخليج العربي القادمين من جامعات تونسية ومغربية. لن نقلل من شأن ما ينتج المشرق، ولكن ما ينتج المغرب الإسلامي يمكن وضعه ضمن سياق نمو شامل (وإن بطيء)، وليس حركة أفراد نوابغ قليلا ما يتكررون.
ولن نصل إلى إهانة الشام ومنتجه الفكري، ولكن وجب القول إن نموذج بشار الأسد لم يظهر في المغرب. وما كان له ليظهر في المشرق لولا تراث سياسي متخلف يؤمن بالفرد ولا يؤمن بالمؤسسة. وما الدراما السورية إلا نموذج لما يربى عليه الأفراد في وضع قهر سياسي يعيد إنتاج آلياته.
أفق واعد
هل يجب أن يقطع المغرب مع المشرق؟ ليس هذا قصد المقال ولا نية كاتبه، لكن نحتاج إلى إعادة تريب المقدرات في أفق نهضة أمة لا تزال ترزح تحت عوائقها الذاتية؛ أكثر مما تعاني من مكائد أعدائها الخارجيين. والعناء قادم من الشرق، حتى أنه يخرب المغرب. وليبيا نموذج حي، فضلا عن تخريب التجربة التونسية بمال خليجي موّل الاغتيالات.
سيقول البعض إن الشام ليس الخليج. وهذا حق، ولكن الشام وقف في لحظة تاريخية قد تكون حركة الأسد التصحيحية. ومن يومها لم يعد الشام شاما، بينما تقدمت بلدن المغرب على صعد مختلفة، وآخرها قبول فكرة التغيير الديمقراطي المتدرج.. لنسمها تجربة الربيع العربي؛ لأن الشام سيرابط طويلا عند تسميتها بالربيع العبري، وسينتهي هناك، بينما سيكون المغرب الإسلامي قد سبق بأشواط.
لا نجد مناصا من القول إن المغرب الإسلامي محتاج إلى تبني أفكار أخرى عن مستقبله الإقليمي، وعن مستقبله ضمن الأمة العربية والإسلامية.. فلا خليفة في الشرق تدفع له الجزية أو الزكاة. يمكن بناء التجربة القطرية ضمن خطة شاملة للإقليم، وقد بدأ الحديث عن مقررات مؤتمر طنجة (1952) يعود إلى التداول. الأمة العربية الثائرة ذات الرسالة الخالدة لم تعد طريقا مسطرا في الشرق، بل تجارب تتطور في أقاليمها المغربية، وتفرض الشعوب فيها على الحكام وحدة السوق ووحدة التنقل. وآخر الدعوات صدرت من المغرب لكسر حاجز الريبة مع الجزائر، بينما تبنى الزعيم الإسلامي في تونس دعوة إلى التوحيد الاقتصادي مع الجزائر.
المشرق لم بعد مرجعا في السياسة، خاصة بعد انقلاب العسكر المصري وتجبّر بشار الأسد على شعبه، وفشل نخبة العراق في الخروج من المأزق الطائفي، كما لم يكن أبدا مرجعا في الدين الإسلامي للمغرب. والتحرير والتنوير كُتب في تونس، ولم يكتب في مكة ولا في القاهرة.
هل هو مَنٌّ على المشرق ورفض للتكامل؟ أبدا.. إنه رفض التبعية والانتظارية لمشرق مغرور يعتقد بعض أهله، ومنهم مفكرون قوميون، إنهم القاعدة أو حراس العروبة والإسلام، وإن المغرب العربي أو الإسلامي مكان لجمع الفيء للخليفة في دمشق أو بغداد. لقد ولى زمن أداء الجزية على بربر المغرب، كما رواها ابن كثير في الكامل. تاريخ عربي جديد يبدأ من الغرب الإسلامي، وسيكون الدستور التونسي مسودة جيدة لبدء التقدم السياسي في المشرق العربي.. النسخ متوفرة بطبعات شعبية.
طه حسين.. من الإسلام إلى الإسلام!
عشية انعقاد مؤتمره العام بإسطنبول: أي دور لاتحاد العلماء المسلمين؟