نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا لمراسلها أندرو هيغينز من موستار في البوسنة والهرسك، يتحدث فيه عن تداعيات الانقسامات العرقية الراسخة في البوسنة.
ويقول هيغينز إنه عندما تشتعل نار في مدينة موستار، فإن رجل الإطفاء المتمرس ثابت غولوس، يعرف أنه ليس عليه أن يقلق ما لم تكن النار في الجانب المسلم من المدينة من خط التماس الذي بقي مشتعلا بين عامي 1992 و 1994 خلال الصراع الإثني.
ويشير التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أن السبب في هذا يتمثل في أنه رغم أن موستار تعيش في سلام، إلا هناك فريقي إطفاء، أحدهما مكون في الغالب من مسلمين، مثل غولوس، ومسؤوليته إطفاء الحرائق في الجانب الشرقي من المدينة، والثاني مكون من كروات كاثوليكيين يقومون بإطفاء الحرائق في الشق الآخر من المدينة.
وتعلق الصحيفة قائلة إن خط التماس بصفته حدا بين الجانبين اختفى منذ زمن، وهو غير موجود رسميا، إلا أنه يعيش في عقول الناس، وهو شعار للتصدعات الإثنوقومية التي تشل موستار والبوسنة كلها.
ويجد الكاتب أنه "في الوقت الذي تعاني فيه الولايات المتحدة وأوروبا من صعود القومية الإثنية بصفتها قوة انقسام، فإن انقسامات البوسنة تقدم دروسا مظلمة، فبعد انقسامها بسبب الخوف والاقتتال تبقى المجتمعات متشظية لفترة طويلة، حتى بعد أن ينسى الناس ما السبب الذي جعلها تنقسم أصلا، وانعكس الانقسام في الانتخابات مؤخرا، التي ميزها الخطاب القومي والتشكيك في جدوى استمرار البوسنة كدولة".
وينقل التقرير عن تيم كلانسي، وهو أمريكي يعيش في البوسنة، وعمل في موستار خلال الحرب، حيث كان يساعد ضحايا القتال، قوله: "أوروبا قلقة هذه الأيام بسبب صعود اليمين المتطرف، لكن هذا المكان كان متقدما في المنحنى ليظهر مخاطر الإثنو- قومية ومدى بقاء آثارها".
وتذكر الصحيفة أن كلا فريقي الإطفاء تابعان للبلدية ذاتها -بالضبط مثل شركتي جمع القمامة، والمستشفيين، وشركتي الكهرباء، ومحطتي الحافلات، وناديين ليليين لهما شعبية، وفريقي كرة قدم- كلها تخدم المدينة ذاتها، لكنها في الواقع محاصرة خلف خط تم رسمه بالدم قبل ربع قرن خلال أسوأ صراع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
ويورد هيغينز نقلا عن غولوس، قوله: "كل شيء في هذه البلدة واضح، الكل يعلم لمن تتبع الأراضي وأين"، وأضاف أن فريقه لا يطلب أبدا من المسؤول عن إرسال فرق الإطفاء في موستار الذهاب لإطفاء حريق في منطقة كانت تسيطر عليها القوات الكرواتية خلال الحرب، بغض النظر عن أي محطتي الإطفاء أقرب للحريق.
وينقل التقرير عن أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة العلوم والتكنولوجيا في سراييفو، عدنان هوسكيك، قوله: "إنك تنظر إلى مستقبلكم هنا.. لقد كنا نتعامل مع صعود القومية الشعبوية لسنوات".
وتبين الصحيفة أنه بدلا من إنشاء دولة موحدة، فإن اتفاقية 1995، التي تم التوصل إليها في دايتون بين زعماء البوسنة وصربيا وكرواتيا، والتي أوقفت نزيف الدم في البوسنة، أدت إلى تثبيت النخبة القومية التي قامت بالحرب، وقسمت البوسنة إلى "كيانين"؛ جمهورية صربسكا بإدارة الصرب، وفيدرالية تضم الكروات والمسلمين في البوسنة والهرسك، وعلى رأس هذه التشكيلة هناك ثلاثة رؤساء منتخبون، واحد عن البوسنيين الصرب، وآخر عن الكروات، وثالث عن المسلمين الذين يسمون البشناق.
ويلفت الكاتب إلى أنه تم توزيع السلطة أكثر بحسب الخطوط الإثنية، من خلال إنشاء 10 وحدات محلية للحكومة تسمى كانتونات، لكل واحدة منها رئيس ووزراء، يكررون مهام الحكومة الوطنية الضعيفة.
ويقول رجل الإطفاء المسلم غولوس للصحيفة، إن لديه العديد من الأصدقاء في الجانب الآخر، ولا يشعر بالعداء للصرب الذين بدأوا القتال، لكن معظمهم غادر المدينة، أو الكروات الذين كانوا يطلقون قذائف المدفعية ونيران القناصة على منطقته خلال الحرب، مستدركا بأن ما يقلقه هو أن انقسامات الحرب زادت صلابة بدلا من تلاشيها، بسبب المدارس المنفصلة، حيث نشأ جيل بعد الحرب من الشباب الكروات والبشناق في موستار، وهما المجموعتان الإثنيتان الرئيسيتان، لا يعرفون في العادة سوى أشخاص من إثنيتهم وليست لديهم أي تجربة مشتركة، ويقول غولوس: "لقد تراجعنا إلى الوراء ولم نتقدم".
وينوه التقرير إلى أن ابنته أميلا، البالغة من العمر 20 عاما، تذهب إلى المدرسة الثانوية ذاتها، كالطلاب الكروات، لكنها لا تختلط بهم؛ لأنهم يذهبون في أوقات مختلفة، فالمسلمون يذهبون في الفترة الصباحية التي تبدأ في السابعة والنصف، والكروات في الفترة المسائية من الساعة الثانية بعد الظهر، وهو ترتيب منتشر في البوسنة.
وتورد الصحيفة نقلا عن أميلا، قولها إنه لم يكن لديها أصدقاء كرواتيون مع أنها تعرف بعض الصرب، مشيرة إلى أن الشباب المسلمين يذهبون في عطلة نهاية الأسبوع إلى نادي "آرت" الليلي في شرق المدينة، في الوقت الذي يفضل فيه الكروات الذهاب إلى نادي "بنك بانثر" الليلي في الشق الآخر من المدينة، وتضيف: "لا أريد أن نكون منقسمين هكذا، لكن علينا أن نتقبل بأن الانقسام موجود".
ويشير هيغينز إلى أن أميلا، مثل كثير من البشناق الشباب، تفكر في الهجرة إلى أوروبا الغربية؛ لأن العثور على عمل هناك أسهل، والرواتب أفضل، وللهروب من حالة اليأس التي يعيشها الشباب في البوسنة.
وبحسب التقرير، فإن الاقتصاد ينمو وذلك بشكل رئيسي بسبب ضخ أموال المساعدات الأجنبية، لكن البطالة بين الشباب تصل إلى 60%، لافتا إلى أنه لمدة عقدين من الترنح من أزمة إلى التي تليها، فإن نظام البوسنة الهش قاوم الانهيار، إلا أن هذه المقدرة على الصمود أصبحت الآن في خطر، بحسب ما قاله السياسي البريطاني بادي آشداون، الذي كان الممثل الأعلى للبوسنة بين عامي 2002 و 2006، وجاءت توقعاته الكئيبة بعد الانتخابات التي أجريت في تشرين الأول/ أكتوبر، التي سادتها دعوات قبلية بالذات في جمهورية صربسكا.
وتفيد الصحيفة بأن نتيجة الانتخابات كانت بفوز قومي متطرف عن عضو الرئاسة الصربي للرئاسة الثلاثية، وهو ما أثار غضبا بين الكروات، الذين يشتكون من أن التصويت لرئيسهم لم يكن صافيا من ناحية إثنية، حيث صوت الكثير من المسلمين للرئيس الكرواتي، الذي يعد معتدلا لكن يشجبه الكروات؛ لأن انتخابه تم من خلال الخطوط الإثنية.
وينقل الكاتب عن آشداون، قوله: "هل سيقود هذا للصراع؟ ربما لا.. لكن المجتمع الدولي يسير نائما نحو كارثة دولية أبعادها كبيرة"، وأضاف أن المشكلة الآن ليست فقط هي أن البوسنة لا تزال منقسمة، لكن لأن أوروبا وأمريكا مستقطبتان، وتراجع اهتمامهما بمشكلات البوسنة، والفراغ الناتج تملؤه كل من روسيا وتركيا، وكل منهما حريصة على فرض نفسها في البلقان؛ روسيا بصفتها مدافعة عن الصرب، وتركيا عن المسلمين، وقال آشداون: "تذكرني هذه الأوقات بثلاثينيات القرن الماضي.. كل شيء يتهدم والوسط لا يستطيع الصمود".
ويورد التقرير نقلا عن روبرت سميث، وهو الجنرال البريطاني الذي كان يقود قوات الأمم المتحدة في البوسنة وقت اتفاقية دايتون، قوله إن الاتفاقية التي تمت بوساطة أمريكية لم يقصد منها أن تكون تسوية طويلة الأمد، لكن ببساطة "اتفاقية وقف إطلاق نار"، عكست وكرست دون قصد الانقسامات الإثنية على الأرض في وقتها، إلا أنه يعتقد أن إدارة كلينتون أخطأت بالدفع نحو انتخابات بوسنية مبكرة "كرست الانقسام"، بحسب ما قال في مقابلة هاتفية؛ لأنها أفرزت المجموعات القومية التي خلقت الصراع.
وتقول الصحيفة إنه بعد عقدين من الزمان، فإن الأحزاب ذاتها أو من خلفها، لا يزالون متمسكين بولاءاتهم الإثنية، وهي التي تسيطر على المشهد السياسي المحلي والقومي، ففي موستار تنقسم السلطة بين حزب HDZ الكرواتي و SDA البشناقي، وهما الحزبان اللذان دمرا مركز المدينة.
وينقل هيغينز عن رئيس قسم العلاقات الدولية والدراسات الأوروبية في جامعة بيرتش الدولية، وهي جامعة خاصة بالقرب من سراييفو، أديس ماكسيك، قوله: "يقال في العادة إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى، لكن هنا في البوسنة فإن السياسة استمرار للحرب بوسائل سلمية.. وليست حالة سلام بقدر ما هي حالة لا- حرب".
ويجد التقرير أنه مع أن التحرش بين المجتمعات نادر في الحياة اليومية، إلا أن آمنة بوبوفاك، وهي ناشطة في موستار في حزب ناسا سترانكا، وهو حزب متعدد الإثنيات يحاول كسر الحواجز، تقول إن الزعماء السياسيين القوميين، كلهم رجال ويثيرون مخاوف الصراع للحصول على الدعم، وتجنب حل المشكلات الحقيقية، وقالت إن "التستوستيرون يؤدي دورا كبيرا في سياستنا".
وتذكر الصحيفة أن تقريرا حديثا موجها للأمم المتحدة من الممثل الأعلى في سراييفو، فالنتين أنزيكو، قدم صورة مظلمة لبلد تسودها الفوضى، واشتكى بأنه قبل انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر، ركز السياسيون والأحزاب البوسنية "بشكل أساسي على انتقاد بعضهم أو المجتمع الدولي، واستعراض القضايا القومية المتسببة بالانقسام، بدلا من الحكم بفعالية، أو تبني الإصلاحات الضرورية".
ويرى الكاتب أن ما يزيد الطين بلة هو نظام اقتصادي أبوي، يتم فيه توزيع الوظائف وغنائم الفساد على أسس إثنية، وهو ما يشل البوسنة لتكون دولة ناجحة، مشيرا إلى أن الأمر استدعى سنوات من الضغط من البنك الدولي لإقناع موستار أخيرا بتقبل إنشاء مكب نفايات مشترك، يأخذ النفايات من الشركتين اللتين تجمعان النفايات، إحداهما غالبيتها مسلمون، والثانية غالبيتها من الكروات.
وينقل التقرير عن رئيس حكومة الكانتون نيفينكو هيرسيغ، قوله إنه حتى الآن فإن المكب المشترك، الذي تديره شركة خاصة، والذي يقع بشكل كبير في الجزء المسلم من المدينة، يرفض أحيانا قبول النفايات من الجانب الكرواتي.
وتفيد الصحيفة بأن ما كان خط تماس خلال الحرب يسير بجانب نهر نيريتفا، الذي يقطعه جسر قديم يعد درة من القرن السادس عشر لفن العمارة العثمانية، وقد تمت إعادة بنائه، حيث كان قد دمر على أيدي الكروات، مشيرة إلى أنه حتى اليوم فإن اسم الشارع يختلف، فبينما يسمي المسلمون الشارع "شارع الثورة الشعبية"، فإن الكروات يسمونه شارع المدافعين الكروات.
ويقول هيغينز إن الفروق بين البشناق والكروات والصرب صغيرة جدا، فهم يتحدثون اللغة ذاتها، وأشكالهم هي ذاتها، ومعظمهم يأكل الطعام ذات، حتى أن بعض العلماء الذين درسوا حرب 1990 لجأوا إلى نظرية فرويد التي تتحدث عن "نرجسية الفروق البسيطة" لتفسير الغضب الذي فجرته القوميات المتنافسة.
وبحسب التقرير، فإن الفارق الكبير الوحيد هو الدين بين الكروات الكاثوليك والبشناق المسلمين والصرب الأورثودوكس، لكن يوحدهم أن القليل منهم يتعبد بشكل منتظم، وكلهم يحبون الذهاب للبارات والمقاهي.
وتختم "نيويورك تايمز" تقريرها بالإشارة إلى قول بوبوفاك، الناشطة في موستار، إن أكبر لعنة للبوسنة ليست العداوات الإثنية أو الدينية، بل الزعماء السياسيون القوميون، الذين يشعلون مخاوف المجتمع الذي يدعون تمثيله، لإنقاذ أنفسهم ونظام فاسد أثراهم.
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)
التايمز: لا عودة إجبارية للروهينغا دون ضمانات
إندبندنت: لماذا تلاحق الصين مسلمي الإيغور في الخارج؟