لقد ذكرت في المقال السابق أنه في ظل الأنظمة التي تحكم العالم
العربي والإسلامي؛ لا فرق بين حاكم وآخر، أو بين حاكم ومن يأتي بعده. فلو جاء
الحاكم X ابن Y، فإنه سيقوم بما يقوم به محمد بن سلمان ومحمد
بن زايد وعبد الفتاح السيسي وبشار الأسد، وغيرهم وغيرهم، سواء في الخليج أو في
المغرب العربي أو المشرق. ونفس المشاهد نراها في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
وهذه المشاهد ليست جديدة، فكنا نراها في عهد صدام وعبد الناصر
والقذافي وبينوشيه وعيدي أمين وسوهارتوا، بل يمكن القول إن أغلب البلاد العربية
والإسلامية ودول ما يطلق عليها بدول العالم الثالث؛ تحكم بنفس النظام، وهو كما
ذكرت قبلا نظام
الاستبداد (إلا من رحم ربي ولفترات محدودة). لذلك نجد ونشاهد
الاستبداد في جزيرة العرب بمسميات أجزائها المختلفة، ونجده في مصر وسوريا ومختلف
الأقطار، وبالتالي فإن السؤال المثار حول: هل محمد بن سلمان هو الذي أمر بقتل جمال
خاشقجي أو أن أحد أتباعه هو الذي أمر بذلك.. لا أتصور أنه ليس السؤال الصحيح؛ لأنه
سواء كان هو الآمر أم أحد غيره، فإنني أعتقد أن النظام السعودي، بداية من سلمان بن
عبد العزيز القائم على الاستبداد، هو الذي أمر.
ولا
يمكن أن ننسى موقف فهد وابنه عبد العزيز من أبناء أخيه، وكيف تعامل عبد العزيز مع
أحد أبناء عمومته في سويسرا وخطفه إلى الرياض (كما ورد في أحد أفلام التسجيلية
لتلفزيون بي بي سي البريطاني)، وهو لم يكن معارضا، فما بالنا بما كانوا يفعلونه مع
أبناء الشعب وهم يعتبرونهم مجرد عبيد لهم؟ وقبل ذلك ما فعله فيصل مع أخيه سعود،
وغيره وغيره، سواء في البحرين أو عُمان أو قطر. ولكن ما حدث أخيرا، ونحن نعيش في
القرية الصغيرة، ونظرا للخلاف بين قطر مع
السعودية والإمارات، تم استغلال الحادث
وتسليط الأضواء عليها بهذه الدرجة، بالإضافة إلى وجود تركيا على المسرح، وما لها
من ثقل.
فجمال خاشقجي رحمه الله لم يكن معارضا للنظام السعودي بأي درجة؛
مقارنه بالمسعري أو الفقيه منذ نهاية تسعينيات القرن المنصرم. بل كان خاشقجي -وهذا
ليس سرا- جزء من هذا النظام في فترة من فترات حياته رحمه الله، ولكن ذلك لا يبرر
الجريمة الشنعاء المنكرة التي حدثت له، ولا الطريقة غير الآدمية التي تم التعامل
معه بها. ولكن القصد هو من الضروري أن هناك سببا لا ندريه جعلت محمد بن سلمان
وأتباعه يستخدمون هذا الأسلوب البربري في التعامل معه.
وعن
المستبد ونظام الاستبداد، أنقل هنا بعض الفقرات من كتاب عبد الرحمن الكواكبي
"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" في وصفه للمستبد"المستبدّ:
"يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً،
وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن
تكون كالصقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافاً للكلاب التي لا
فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام". وهذا ما عبرت عنه في المقال
السابق عندما سُربت المكالمة من القنصلية لإبلاغ السيد بأن المهمة تمت. فالكل عبيد
عند الحاكم المستبد، ولكن ما لم يدركه الكواكبي أن الحكام المستبدين في عالمنا
المعاصر هم عبيد عند سيد البيت الأبيض.
وأنقل
أيضا قولا آخر للكواكبي: "في ظل الحكم الاستبدادي يصاب المواطن بالقلق وعدم
الاستقرار، فتُعطل طاقاته، وتقتل حوافزه وطموحاته، وبهذه الطريقة تحرم البلاد من
عطاءات أبنائها... فالأكثرية يتصرفون حيال مؤسسات الدولة، في البلدان التي يحكمها
مستبدون، وكأنها لا تعنيهم، وفي أحسن الحالات تكثر إلى الخارج هجرة الكفاءات
العلمية والاقتصادية؛ وبذلك تُعطل عجلة التقدم، ويسود التخلف كافة الميادين".
وبالتأكيد من يقرأ هذه الكلمات التي كتبت منذ أكثر من مائة عام يعتقد أنه يصف أكثر
من قُطر عربي وإسلامي في وقتنا المعاصر (مصر مثلا).
إن
النظم المستبدة التي تحكم في عالمنا العربي والإسلامي كلها بلا استثناء هي صنيعة
المشروع الغربي منذ أكثر من مئة عام، ويتلاعبون بالمنطقة وبالمسلمين كما يشاؤون.
وآخر مثال على ذلك أحداث قتل خاشقجي فلقد أظهر الكثيرون السرور بوقوف الغرب (في
ألمانيا وإنجلترا وفرنسا.. الخ) مع العدل، ومهاجمته محمد بن سلمان، وتم تناقل
أقوال وزير خارجية ألمانيا في هجومه على محمد بن سلمان، وتناسينا أن نفس وزير
الخارجية منذ سنوات قليله وحتى يتم توقيع اتفاقية تجارية بين سيمنز ومصر قام
بزيارة مصر، وتحدث عن استقرار الأوضاع، وأن المستقبل قادم برخائه، وكان في نفس
الأسبوع قد تمت تصفية ستة من الشباب المصريين برصاص الداخلية في الشارع بحجة
مقاومة رجال الشرطة، كذبا وافتراء.
وأخيرا، صدر تعليق سيد البيت الأبيض، والذي انتظره الجميع (وللأسف
بما فيهم تركيا) ليفصل في قضية خاشقجي، وبالطبع لم يُصدر شيئا ولم يحسم أمرا (ممكن
ومش ممكن). وتحاول قناة الجزيرة أن تستنطق العبارات التي قالها السيد دون طائل،
وقد كانت خلال اليومين الماضيين تمني نفسها بأن الرئيس الأمريكي سيصدر بيانا قويا
لمعاقبة محمد بن سلمان، وأنه سوف يسعى لعزله عن ولاية العهد، وغير ذلك من تمنيات.
إن
النظم العربية بلا استثناء، لا فرق بينها وبين النظام السعودي، فهي كلها نظم
استبدادية تعتبر أن الدولة هي الحاكم، وأن الحاكم هو الدولة، بمعنى أن مصر هي
السيسي، وسوريا هي الأسد.. ونفس الإطار في الخليج والمغرب العربي وشرق آسيا، ونجد
نفس الفهم في العديد من دول العالم مثل روسيا وغيرها. كما أنه يمكن القول، وبناء
على التصرفات التي قام بها ترامب بشأن قضية خاشقجي، أيضا تصب في هذا الاتجاه. ومن
المحزن أنه حتى في تركيا، بدا الكثير من المسؤولين يتحدثون بنفس المعنى.
وبالتالي، ما يظهر أمامنا من صراعات أو خلافات هي مجرد صراعات شخصية
بين الحكام، وليس للدول أو الشعوب علاقة بهذه الخلافات من قريب أو بعيد. فالخلاف
الخليجي هو خلاف بين تميم بن حمد وبين محمد سلمان، وهو خلاف غيرة وحسد، وليس للشعب
السعودي أو القطري أي دخل بهذا الخلاف. ونفس التحليل ينطبق على الخلاف الإماراتي
التركي، ومحاولة الانقلاب التي دعمتها الإمارات في تركيا، ومحاولة هز العملة
النقدية التركية التي تقوم بها الإمارات تجاه تركيا؛ بسبب خلاف بين محمد بن زايد
ورجب طيب أردوغان.. وهكذا نجده في الخلاف بين السيسي وعمر البشير، وبين بوتفليقة
ومحمد السادس.. وغيره وغيره.
ومن
هنا، فإنني أتساءل: متى سيتمكن العرب والمسلمين، بل وحتى غير المسلمين الذين
يعيشون تحت نير هذا الاستبداد، أن يعيشوا حياة حرة كريمة آمنة مستقرة؟ بالتأكيد
هذا السؤال يشغل بال الكثير والكثير، وهو في حاجة إلى الكثير والكثير من البحث
والجهد. وفي تقديري المحدود أن هذا الهدف إن لم يتقدم المسلمين له، فلن يستطيع
القيام بذلك أحد آخر. وحتى يتقدم المسلمون عليهم تحقيق الشرط الضروري لنجاحهم، ألا
وهو الوحدة ثم الوحدة ثم الوحدة.
والله
المستعان وهو من وراء القصد وهو يهدي السبيل.