أجمل التهاني وأطيب الأماني للزوجة الوفية الجسورة "دانييلا تيجاتا"، والتهنئة موصولة لوزير الخارجية البريطاني وسفارة بلاده في
الإمارات؛ على ما قاموا به جميعا وأدى إلى سرعة الإفراج عن المواطن البريطاني، دارس الدكتوراة "
ماثيو هيدجز"، الذي حكمت عليه محكمة في "أبو ظبي" في وقت قياسي مقداره خمس دقائق؛ بالسجن المؤبد بتهمة القيام بالتجسس وجمع معلومات حساسة عن الاقتصاد والدفاع الإماراتي لصالح جهاز الاستخبارات البريطاني (MI6)، وهي تهمة شبيهة بتلك التي أرسلت "
جوليو ريجيني" إلى أقبية التعذيب
المصرية ليخرج منها جثة ضائعة المعالم؛ أخذت من والدته وقتا وجهدا لتتعرف عليه وتقول كلمتها الشهيرة: "قتلوه كما لو كان مصريا".
لا تتحمل الدول الاستبدادية طرق البحث العلمي ولا وسائل التقصي الميداني، فحينما يتجول الباحث بين الناس وهيئات المجتمع يجمع المعلومات من مصادرها (وخاصة تلك التي تتعلق بالسياسة والاقتصاد)، تخشى أجهزة الأمن أن يتفوه المواطنون بما لا يرضي الأنظمة الحاكمة، فتسرع أذرعها الأمنية بتوجيه تهم التجسس للدارسين؛ لتكتسب سمعة طيبة لدي شعوبها. فهل فعلا تحتاج الدول الأجنبية لجواسيس يجمعون معلومات عنا وكل شيء مفتوح لهم وأمامهم؟
وهل الكيان الصهيوني يحتاج إلى جواسيس تمشي على الأرض بيننا؛ في الوقت الذي كان فيه أشرف مروان (كما أذيع) يبعث بتقاريره إلى سطح مكتب رئيس وزراء العدو الصهيوني، بل ومن هذه التقارير ساعة الصفر لعبور القناة (الثانية وخمس دقائق بعد ظهر السادس من أكتوبر/ تشرين أول 1973م)؟ وما الذي يجعل الكيان الصهيوني يرسل جاسوسا في الوقت الذي يتسلل فيه نتنياهو تحت جنح الظلام ليسهر مع السيسي في قصر الاتحادية والمصريون يغطون في سبات عميق؟
وماذا يستطيع الجاسوس جمعه أكثر مما تحمله محادثة هاتفية بين سامح شكري وزير خارجية الانقلاب؛ يتلقى فيها التعليمات من المستشار القانوني لنتنياهو حول جزيرتي تيران وصنافير المصريتين؟ وقيلت أشياء مشابهة عن ولي عهد الإمارات محمد بن زايد، وزياراته المتكررة للكيان الصهيوني للعلاج والاستجمام، وربما لأسباب أخرى. وما صرح به الرئيس ترامب منذ يومين كان فاضحا لا يحتاج إلى جواسيس: لولا المملكة العربية السعودية لكانت "إسرائيل" في ورطة كبيرة. وحتى إذا اضطر الأعداء لإرسال جاسوس بلحمه وشحمه، فإنه يعلم أن وراءه كيانا يدافع عنه وينقذه وقت الضرورة. وما قصة الجاسوس الصهيوني منا ببعيد، حينما بال "عزام عزام" أثناء محاكمته في القاهرة على القاضي وهيئة المحكمة والمحكمة والنظام القضائي المصري كله، فأرسله حسني مبارك في حماية رتل من العربات المدرعة ليغادر المطار سليما صحيحا معافى من كل ضرر.
يعلم الجميع أن الكيانات الباغية تتصف بالجبن والصّغار والتبعية، فلم يستغرق الأمر منذ أن نهضت "دانييلا تيجانا" تدافع عن زوجها، ومنذ أن احمرت عينا "جيرمي هانت"، وزير خارجية بريطاني، محذرا الإمارات؛ سوى سويعات قليلة، حتى أفرجت سلطات "أبو ظبي" عن "ماثيو هيدجز" المحكوم عليه بالسجن المؤبد يقضيه في
سجون لا تختلف كثيرا عن سجون السيسي أو محمد بن سلمان. في المقابل، حينما حكمت الإمارات على ثلاثة من المصريين بالسجن في عهد الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي قام الدكتور عصام الحداد مساعد رئيس الجمهورية بزيارة الإمارات وكله أمل في النخوة العربية وتفاؤل بالمروءة الإسلامية لكن أصرّ ابن زايد أن يقضي المصريون فترة حكمهم في سجون الإمارات ورفضَ طلب الحداد الذي عاد لمصر خالي الوفاض.
وفي قضية "جوليو
ريجيني"، تمسك الجانب المصري بأن رجاله برآء من دم الشاب الإيطالي، وأصبح مصدر أخبارنا يأتي من الجانب الإيطالي الذي يعلم علم اليقين أن الذي اعتقل وعذب وقتل ريجيني هو كيان السيسي الانقلابي، وهو الذي أطلعنا (من خلال صحيفة الريببليكا) على محتوى خطاب أرسلته المخابرات العامة المصرية إلى سفارة إيطاليا في سويسرا؛ تنبئها فيه بأن الذي اعتقل وعذب وقتل الدارس الإيطالي هو جهاز المخابرات الحربية الذي يترأسه نجل السيسي (وقد يكون هذا أحد أسباب عزل السيسي لرجله المخلص خالد فوزي من رئاسة المخابرات العامة)، وهم الذين أخبرونا عند بداية الأزمة أن السيسي نفسه على علم باعتقال ريجيني. ولم تنقطع الزيارات المتبادلة بين أعضاء القضاء في مصر وإيطاليا، وتعلّم السيسي أنه إذا علا صوت الإيطاليين مطالبين بضبط المتهم بقتل ريجيني ألقمهم عقدا للكشف عن الغاز في شرق المتوسط، مما جعل شركة "إيني" الإيطالية تملك في حقل "ظهر" للغاز أضعاف ما تملكه مصر. ومن مدة طويلة اختفى صوت أم ريجيني، كذلك استقبلت إيطاليا السيسي منذ أقل من شهر على ترابها استقبالا رسميا.
في هذه القضية بالذات نجحت بريطانيا رغم فشلها في ملفات حقوق الإنسان في العديد من الدول أبرزها مصر واليمن وسوريا وميانمار والصين، بينما إيطاليا خابت في قضيتها وفي كل القضايا الأخرى، وإن تشبثها بكون الغاز والمصالح أهم من دم المواطن والإنسان؛ لمدعاة للأسف والعار.