مع دخول عملية "درع الشمال" أسبوعها الثالث، تصاعد التوتر والاحتكاك على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والجيش اللبناني، في ظل صمت أو تواري وغياب حزب الله عن المشهد برمته، بينما عاد السؤال الذي بدا خجولاً لطرح نفسه بقوة من جديد: هل تتدحرج الأوضاع إلى حرب بين الدولة العبرية والدولة اللبنانية مع التحول الطارئ، ولو نظرياً على الموقف الإسرائيلي الذي بات يعتبر أن أي حرب قادمة ستكون مع لبنان ككل، وليس فقط مع حزب الله كما كان الحال في حرب العام 2006؟
كالعادة، في ظل الصمت أو حتى الخجل في التعاطي مع الملف من قبل حزب الله ومشغليه في طهران، جاءت الإجابات أو ملامحها العامة من الإعلام الإسرائيلي الذي نشر مقتطفات لمداخلة الجنرال تمير هايمن، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، أمام الكنيست الثلاثاء الماضي، كما كشف عن تفاصيل إضافية متعلقة بالاتصالات الإسرائيلية الأمريكية، وتحديداً اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء نتنياهو مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في العاصمة البلجيكية بروكسل منذ أسبوعين، أي قبل الشروع مباشرة في عملية درع الشمال.
حرب مستبعدة
الجنرال هايمن قال أمام لجنة الخارجية والأمن البرلمانية إن الأوضاع على الحدود الفلسطينية اللبنانية لا تتجه إلى حرب لا يريدها الطرفان، لكنه استدرك بأن احتمالات الانفجار هي عالية أيضاً (كما كان الحال على الجبهة الجنوبية في غزة مرتين على الأقل، حيث تدحرجت الأوضاع إلى التصعيد والحربضد رغبة الطرفين". وكرر هايمن، كما معلقون كثر، القراءة الإسرائيلية عن انشغال حزب الله بتأكيد سيطرته على لبنان، كما بالدفاع عن بقايا نظام بشار الأسد، وأنه ليس بوارد الذهاب إلى حرب مع إسرائيل، لا هو ولا مشغيله في طهران، على اعتبار أن ورقة الحزب هي الأقوى بيد طهران، وتعتبر بمثابة الخيار الأخير لها.
معطى آخر يقول إن احتمالات الحرب ليست كبيرة نجده في تفاصيل النقاش السياسي الإسرائيلي الأمريكي حول عملية درع الشمال، كما المستجدات على الجبهة اللبنانية، حيث طلب نتنياهو من واشنطن فرض عقوبات على الدولة اللبنانية ومؤسساتها، بما فيها الجيش، بعدما تحولت إلى رهينة أو إداة بيد الحزب وإيران، إلا أن الإدارة الأمريكية رفضت، وهي تجادل بأن بالإمكان العمل والتعاون مع الدولة والجيش، واستمرار القنوات المفتوحة معهما، مع الانفتاح طبعاً على فكرة فرض مزيد من العقوبات على الحزب وتشديد السياسة بعد القطع مع السياسة الناعمة التي اتبعتها إدارة أوباما السابقة مع إيران وأدواتها في المنطقة.
أجندة مَن؟
منطق إدارة ترامب واضح ويشرح نفسه، ويتمثل في أن الحشد اللبناني هو مجرد أداة بيد إيران، وبدلاً من الذهاب إلى حرب تخلط الأوراق لا بد من إعطاء الوقت الكافي للعقوبات الأمريكية علىطهران لإجبارها على التنازل والتراجع وتقديم العروض (هو ما حدث فعلاً عبر موسكو التي طرحت فكرة انسحاب الحزب من سوريا، وحتى نزع سلاحه - جريدة النهار 29 تشرين الثاني/ نوفمبر). كما سعت موسكو لجس النبض، عبر طرح مقايضة بين تخفيف العقوبات مقابل انسحاب إيران ومليشياتها (بالمعنى العسكري طبعاً) من سوريا، كما نقلت القناة الإسرائيلية العاشرة عن نتنياهو نفسه في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
العملية الأمريكية الإقليمية الأوسع والأعمق من درع الشمال ما زالت في بداياتها، وآثار العقوبات لم تظهر بعد، لذلك لا تبدو واشنطن مستعجلة لفتح البازار والنقاش، وطبعاً لا تريد التشويش على سياساتها الإقليمية بأي حال من الأحوال، بما في ذلك احتمال اندلاع حرب بين إسرائيل ولبنان على الجبهة الشمالية، أو حتى بين حماس وإسرائيل على الجبهة الجنوبية، علماً أن إدارة ترامب دعمت ودون تحفظ الجهود المصرية للتهدئة بينهما في غزة، لنفس السبب الإقليمي السابق، إضافة إلى الرغبة في خلق بيئة مؤاتية أكثر لطرح صفقة القرن.
إلى ذلك، فإن إسرائيل نفسها لا تستعجل الحرب، وتكتفي بوضع مزيد من الضغوط السياسية والدبلوماسية على الحزب ولبنان، وتضخيم قصة الأنفاق التي تمثل انتهاك فظ للقرار 1701، كما تؤكد إمساكه أو تحييده للدولة اللبنانية، والنيل من هيبتها وسلطتها والتزاماتها. أما الهدف الإسرائيلى الرئيسي أو الأبعد، فتمثل باستغلال إنجاز وصدمة الأنفاق لتسليط الضوء على الملف الأهم بنظر تل أبيب، وهو ما تصفه بالتموضع الإيراني في لبنان بعد الهروب من سوريا، عبر التفكير في إقامة مصانع للصواريخ الدقيقة، ونشر منظومات صاروخية متطورة طويلة المدى، أو حتى مضادة للطيران على الأراضي اللبنانية، بحجة مساعدة الحزب (والمقاومة)، رغماً عن الدولة اللبنانية وإرادتها السياسية.
أمريكا وإيران
الإعلام الإسرائيلي كان قد شبّه لقاء نتنياهو- بومبيو في بروكسل؛ بلقاء أرئيل شارون (وزير الدفاع آنذاك) وألكسندر هيغ (وزير الخارجية الأمريكي) في واشنطن، قبل اجتياح لبنان عام 1982، أو حتى زيارة رئيس الوزراء إيهود أولمرت إلى العاصمة الأمريكية قبل قصف المفاعل النووي للنظام السوري في دير الزور (أيلول/ سبتمبر 2007)، إلا أن الوضع يبدو مختلفاً هذه المرة، حيث تدعم الإدارة الأمريكية عملية "درع الشمال" لكشف الأنفاق، وهي تدعم سياسياً ودبلوماسياً الضغوط على حزب الله، بما في ذلك فرض مزيد من العقوبات عليه، إلا أنها لا تدعم خيار الحرب، أقله في هذه الظروف، كونها تملك أولويات مختلفة، كما أنها تبدو مقتعنة بفكرة أن إضعاف الحزب يبدأ من طهران، حتى لو كان العكس صحيحاً أيضاً، ولو نسبياً.
كما قلنا في مقال سابق هنا، فإن عملية الأنفاق تتضمن إبعاد داخلية إسرائيلية، إلا أن تل أبيب لم تختلق القصة، ولا شك أن الحزب جيّر استثمارات كبيرة، ليس فقط من موارده، وإنما حتى من موارد ثروات الدولة اللبنانية التي يتم النيل من هيبتها وسلطاتها، في الجنوب والبلد بأكمله، بما في ذلك إقامة مشاريع خاصة بما تم استخراجه من رمال وصخور عند حفر الأنفاق.
رغم احتمالات الانفجار المرتفعة التي تحدث عنها مسؤول استخبارات جيش الاحتلال، ورغم أن امتداد العملية لأسابيع، وربما شهور، يزيد كذلك من احتمالات التوتر والاحتكاك على الحدود، إلا أن خيار الحرب لا يبدو مطروحاً بشكل جدي حتى الآن، مع الانتباه إلى استمرار تبني الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لأسس النظرية الأمنية التي وضعها مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن غوريون القائلة: "إنه لا يمكن الذهاب إلى حرب دون دعم دولي من القوى المؤثرة (بريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة)"، فيما بعد ومن الواضح أن هذا الدعم غير متوفر حالياً، لا أمريكيا ولا حتى أوروبياً. ورغم كل ما يقال، فإن الخطوط العريضة للسياسات في المنطقة تفرضها واشنطن وتلعب تل أبيب على أساسها، وليس العكس. طبعاً ضمن التحالف الراسخ والمصالح المشتركة.
لا بد من التأكيد دائماً على حق المقاومة المشروع في سياق المصلحة الوطنية الجامعة، وهو معطى غير متوفر الآن في الحالة اللبنانية مع تحول الحزب إلى ذراع إقليمي للإمبراطورية التوسعية الفارسية. وحتى لو ظلت المقاومة في السياق الوطني، فهي لا تمثل مبرراً لكسر التوزانات السياسية والطائفية في البلد، وهدم دستوره وميثاقة الجامع. والأهم من ذلك كله، أن لبنان الصغير لا يستطيع ولا يملك أصلاً الإمكانيات لمواجهة المشروع الاستعمار الإسرائيلي؛ المهمة التي كانت - وما زالت - ملقاة تاريخياً على عاتق الحواضر والمدن العربية الكبرى التي دمرتها أو احتلتها إيران لإقامة إمبراطوريتها القومية المذهبية الموتورة، بمساعدة كبيرة وجوهرية من الحشد اللبناني والحشود الطائفية الأخرى.
طريق واحد يصل إلى فلسطين.. عبر المقاومة
دور "الصهيونية الفلسطينية" في تدشين "الصهيونية العربية"