هناك أمور كثيرة فرضها علينا الخواجات، وأستخدم هذه الكلمة، ومفردها خواجة، بمعناها في مصر والسودان، أي الشخص الغربي؛ بينما تعني الخواجة في منطقة الشام الشخص ميسور الحال، وهناك عبارة "عقدة الخواجة"، لمن يتشبه بالغربيين متناسيا تقاليد وممارسات مجتمعه، ومن تجليات هذه العقدة قول بعضنا: فلان خواجة في المواعيد، أي يحترم المواعيد التي يضربها للآخرين، وليس من صنف: الاجتماع بعد صلاة المغرب، أو أزورك بعد عيد الأضحى.
توقيت غرينيتش
أعود إلى الأمور التي فرضها علينا الخواجات، ومن بينها توقيت غرينتش، وحدث ذلك عندما كان الإنجليز سادة البحار والبراري، ويحكمون الكثير من دول العالم في مختلف القارات، وكانوا أيضا روادا في مجال الاكتشافات والاختراعات، وفي أواخر القرن التاسع عشر تقرر أن تكون نقطة التقاء الشرق والغرب، عند خط طول صفر الذي يمر بقرية غرينتش الإنجليزية، وأصبح تحديد المواقع شرقا وغربا يخضع لموقعها من خط طول صفر المرجعي.
إن تبرئة أوروبا من المشرقية، جعلت الخواجات يسمون البلدان الواقعة شرق البحر المتوسط الى تخوم باكستان بالشرق الأوسط وما شرقها بالشرق الأقصى،
وكان نصيبنا في إفريقيا خط عرض صفر المعروف بخط الاستواء، فعندما تقع الشمس في خط مستوٍ تحدث ظاهرة تساوي الليل والنهار، والتي تحدث مرتين في السنة، بالإضافة إلى أنّ تسمية خط الاستواء ترجع إلى كونه الخط الذي يفصل الكرة الأرضية إلى قسمين، هما نصف الكرة الشماليّ والنصف الجنوبيّ، وفيما يخصنا نحن الأفارقة فإنه المنطقة التي "تستوي" فيها الجلود من حر شمس عمودية معظم الوقت، ولا تُقلص شمسنا نشاطها في الشتاء.
وبحكم أن خط طول صفر صار خواجاتيا، صارت بلاد الخواجات مركز الكون، فصار تحديد مواقع البلدان الأخرى يخضع لما إذا كانت شرق أو غرب غرينتش، فكانت تسمية
الشرق الأوسط من نصيب معظم الدول العربية، باعتبار أن هناك شرق أقصى في أطراف قارة آسيا، ولاحظ أنه ليس هناك شرق طرفي ليكون هناك آخر أوسط وثالث أقصى، والعجيب ان الدول الأوروبية تسمى بالدول الغربية، رغم أنها تقع الى الشرق من بريطانيا، حيث خط غرينتش المركزي.
بل إن تبرئة
أوروبا من المشرقية، جعلت الخواجات يسمون البلدان الواقعة شرق البحر المتوسط الى تخوم باكستان بالشرق الأوسط وما شرقها بالشرق الأقصى، وأدرك المترجمون العرب أن ترجمة "نِير إيست" الى الشرق الأدنى (وهي المقابل الموضوعي للشرق الأقصى/ فار إيست)، يعود بالشبهات إلى المنطقة، لأن الأدنى أيضا نقيض الأعلى، وبالتالي فإن الحديث عن الشرق الأدنى، قد يعني أنه أقل مرتبة من الشرق الآخر.
مركزية غربية
ويتجلى إحساس الانسان الخواجة/ الغربي بأنه أيضا وليس فقط موقع منطقته "مركزي"، في اعتبار نفسه أبيض البشرة، وتأسيسا على هذا البياض المفترض، يتم تقسيم الشعوب الأخرى الى سمراء وسوداء وصفراء، بل وبحكم أنهم يعتبرون أن لون بشرتهم هو اللون المرجعي، فإنهم يسمون جميع ذوي البشرات الأخرى بالملوّنين، ويقال عنهم على وجه التحديد بالانجليزية people of colour وترجمتها الحرفية هي "الأشخاص ذوي الألوان"، وليس اللون الأبيض بداهة من بين تلك الألوان، باعتبار أنه شيء "غير شَكل"، وهو الأصل الذي يعتبر كل من لم ينعم الله عليه به "ملوَّناً".
وظل الأوروبيون وعلى مدى قرون عديدة يعتبرون أنفسهم أصل الأنواع والأشياء، ويعتقدون أن ديارهم هي أصل الكون، ولهذا تحدثوا وما زالوا يتحدثون عن اكتشاف إفريقيا وأمريكا، بل سموا أمريكا بالأراضي الجديدة، وعندما تقول إنك اكتشفت قارة أكبر أو أصغر من تلك التي تضم بلادك، فإنك تعني أنها كانت ضائعة/ مفقودة، وإنك من عثر عليها، وبالتالي كانت قبل مجيئك نسيا منسيا.
نبع النيل.. الملكة فيكتوريا
وقياسا على هذا لم تكن هناك بحيرة ينبع منها النيل، إلى أن وجدها جون هانين سبيك، وأطلق عليها اسم الملكة فيكتوريا، وما عليهم ولا علينا أنها كانت موجودة وأن النيل ظل ينبع منها منذ آلاف السنين، وانها ثاني اكبر بحيرة للمياه العذبة في العالم وأكبر بحيرة في
أفريقيا، ولكن إذا كانت أفريقيا بحالها بحاجة الى من يكتشفها فما بالك ببحيرة فيها؟
ظل الأوروبيون وعلى مدى قرون عديدة يعتبرون أنفسهم أصل الأنواع والأشياء، ويعتقدون أن ديارهم هي أصل الكون، ولهذا تحدثوا وما زالوا يتحدثون عن اكتشاف إفريقيا وأمريكا
وكتبت هنا من قبل عن كيف أن كريستوفر كولمبس دارى فشله في العثور على طريق قصير إلى الهند بالإبحار غربا عبر الأطلسي، بأن أطلق على سكان أمريكا التي اكتشف أنها تسد الطريق إلى الهند، اسم الهنود الحمر ليكسب بذلك فضل اكتشاف سلالات جديدة من الهنود:
"خلال العقدين الماضيين سك الأمريكان اسما لائقا لمن كانوا يسمونهم الهنود الحمر، بأن جعلوهم (المواطنين الأصليين/ نيتيف أميركانز)، تماما كما أعطوا السود ترقية من نيقرز، التي هي أدنى درجة في سلم الطبقات البشرية، وجعلوهم "امريكان أفارقة".
ولكن أليس مع الأوروبيين بعض الحق في الزعم بأنهم من اكتشف وحدد خط طول غرينتش وخط عرض الاستواء، ووضع بعض القارات والبحيرات المكتشفة على الأطلس، وأن الأراضي المكتشفة كانت قبلها معزولة عن العالم الذي عرف العلوم الطبيعية والتطبيقية؟
وما من سبيل لإنكار أن الغربيين هم من جاسوا صحارينا وجبالنا ووضعوها على الخارطة، فكيف لنا أن ننكر عليهم تباهيهم بأنهم اكتشفوا أرضا أو نهرا أو جنسا بشريا كان خارج سياق الجغرافيا والتاريخ المدونين؟
ثم هل جاءت على تسمية منطقتنا بالشرق الأوسط، وبلاش من سيرة سايكس بيكو، وترسيم حدود جميع بلداننا من قبل القوى الغربية، التي وضعت أصول علوم الجغرافيا والسياسة والحرب التي سادت منذ أواخر القرن الثامن عشر؟