تحيي حركة
حماس في هذه الأيام الذكرى 31 لانطلاقتها كحركة مقاومة إسلامية في
فلسطين المحتلة، على وقعِ تحديات كبيرة تشوب الساحة الفلسطينية والمنطقة برمّتها. فلا يخفى على أحدٍ قط ما تعانيه منطقتنا العربية من نزاعاتٍ وتحزّباتٍ مُضنية أرهقت الواقع العربي، على ضوء ظهور تحالفات جديدة في المنطقة، ومحاولاتٍ مستمرة لتغيير موازين القوى في العالم..
وفي هذا الصدد، لا بد من القول أنّ حركة حماس تمكنت من تجاوز كل غبار هذه الحروب المشتعلة، والنجاة إلى الضفة الآمنة من هذا الصراع، لتخرج بصيغة قريبة من جميع الأطراف، وتقيم علاقات راقية بعض الشيء مع أيّ طرفين متشاحنين في المنطقة، وذلك من خلال الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، بغض النظر عن بعض التوترات التي طرأت على علاقة حماس ببعض الأطراف الإقليمية..
وهكذا، تمكنت حركة حماس من الحفاظ على دورها الحيادي الذي يكفل لها الالتفات إلى مشروعها التحرري، ومواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي بكافة الوسائل المتاحة. فعلى سبيل المثال، عندما اندلعت الأزمة في سوريا، كان لحركة حماس موقف واضح يميل إلى المطالب المشروعة للشعب السوري، مع ضرورة رفض التدخل الخارجي والعدوان على الأرض السورية بذريعة مناصرة الشعب السوري وتكرار السيناريو الليبي في سوريا. وفي كل عدوان إسرائيلي على التراب السوري، كانت حركة حماس تدين هذا العدوان وترفضه رفضاً قاطعاً، رغم الخلاف القائم حتى اللحظة بينها وبين دمشق؛ لأنها تعتبره عدواناً سافراً على أرض عربية تجب إدانته وعدم الترحيب به..
وعلى الرغم من خسارة الحركة آنذاك لأكبر حليف لها في المنطقة، وهو الحليف السوري، بسبب هذا الموقف، إلا أنّ الحركة حاولت الإبقاء على علاقة فاترة مع حلفاء سوريا في المنطقة، كإيران ولبنان، والذين يؤازرون الحركة في مشروعها المناهض لدولة الاحتلال الصهيوني، وبالتالي حافظت الحركة على طبيعة علاقاتها مع باقي الدول في هذا المحور، ولم تنسحب كلياً، رغم وجود حليف جديد آنذاك، وهو حليف قوي يتمثل في وصول محمد مرسي إلى سدّة الحكم في مصر، والذي يعتبر من المناصرين الأوائل للحركة..
ولسوء حظ الحركة، لم يدم مرسي طويلا، وسرعان ما أزيح عن كرسي الرئاسة، ليتولى الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الرئاسة هناك. وعلى الرغم من أنه على نقيض سلفه السابق في كافة الأفكار السياسية، إلا أنّ حركة حماس ما عادته وما أظهرت له الخصام، بل على عكس ذلك تماماً، راحت تقيم مع دولة مصر أطيب العلاقات، لا سيما في قضايا فك الحصار عن قطاع غزة، وملف المصالحة الفلسطينية، ورفض صفقة القرن..
وهنا لا ينكر أحدٌ قط وجود علاقات اقتصاية وسياسية بين السيسي وإسرائيل، إلا أنّ حماس لم تتخذ من السيسي عدواً لها؛ بقدر ما اتخذته صديقاً يمكن أن يساهم ولو قليلاً بتخفيف وطأة الحصار عن قطاع غزة، وبالتالي خرجت حماس بصيغة مصرية فلسطينية مقبولة إلى حدٍ بعيد، بدل الحرب الإعلامية والتخوين والتكفير. وما تزال هذه الصيغة هي سيدة الموقف بين الجانبين حتى اليوم.
وفي ما يتعلق بالأزمة الخليجية المتمثلة في الحصار الذي فرضته كل من السعودية والإمارات ومصر والبحرين على دولة قطر، بذريعة دعم الأخيرة للإرهاب، لم تنحرج حركة حماس، بل كررت السيناريو ذاته، وخرجت بصيغة سياسية توافقية ضَمِنَت لها التخلص من تبعات هذه الأزمة، وعدم إبداء العداء لأي طرفٍ كان، وعبّرت في أكثر من مناسبة عن رغبتها في عودة الأمور إلى نصابها بين الأشقاء الخليجيين، وكانت علاقتها من أروع ما يكون مع طرفي الخلاف هناك. أمّا في ما يخص التوتر الخاص في العلاقة مع السعودية تحديداً، دون مصر والإمارات، فإنّ السبب يعود في ذلك إلى سياسات المملكة الجديدة مع وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، وتصنيف حركة حماس على أنها منظمة إرهابية، رغم أن أحد اتفاقات المصالحة بين حركتي فتح وحماس تمّ إبرامه في مكة المكرمة وبرعاية سعودية كريمة..
وما يؤيد صحة هذا القول، أن علاقات السعودية ساءت حديثاً مع معظم دول الإقليم، وليس فقط مع حركة حماس، وهذا يثبت أنّ الخطأ لم يكن من طرف حركة حماس؛ بقدر ما كان من طرف الأشقاء السعوديين..
واليوم، تمكنت حركة حماس في الذكرى 31 لانطلاقتها من الانتصار الجزئي على دولة الاحتلال الإسرائيلي عسكريا وسياسياً. أما من الناحية العسكرية، فقد اعترف الإسرائيليون بالخسائر التي تكبدوها في المواجهات الأخيرة، سواء في قطاع غزة أم في رام الله والضفة الغربية، ومن الناحية السياسية، فقد تمكن أنصار الحق الفلسطيني من إفشال القرار الأمريكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، المتعلق بإدانة حركة حماس، ومن بين هؤلاء حركة فتح التي رفضت منذ البداية هذا القرار واعتبرته مساساً بالشعب الفلسطيني بالكامل، وليس بحركة أو فصيل أو جماعة..
في الذكرى 31 لانطلاقها، نتمنى على الحركة، وكما تمكنت من تجاوز كل تناقضات المنطقة، أن تسعى بكل ما أوتيت من فن السياسة لتدارك
الانقسام الفلسطيني الذي أصبح كابوساً جاثماً على صدر الشعب الفلسطيني، بل هو أشدّ عبئاً من النكبة ذاتها..