جريمة جديدة استهدفت إحدى الكنائس المصرية شرقي القاهرة، قبل يوم واحد من احتفالات عيد الميلاد؛ لم تصب هدفها المباشر وهو مبنى الكنيسة أو روادها، ولكنها قتلت ضابط شرطة برتبة رائد وأصابت آخر برتبة لواء، هو مدير إدارة المتفجرات بالقاهرة، ومجندا ثالثا. ورغم أن العبوة الناسفة انفجرت في وجه رجال الشرطة ولم تصب مبنى الكنيسة، إلا أن أثرها النفسي ظل قائما، وهو نشر حالة الذعر بين المسيحيين وهم يحتفلون بأعياد الميلاد في السابع من كانون الثاني/ يناير، وفقا لتقويم الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
لا يمكننا دفن الرؤوس في الرمال تجاه الجرائم التي تقع ضد المسيحييين المصريين، صحيح أن بعض الجرائم تتم من قبل النظام لحسابات خاصة، بهدف توظيفها لصالحه، لكن هناك الكثير من الجرائم أيضا تتم من جماعات مسلحة تستهدف الضغط على النظام من خلال ضرب المسيحيين، وصحيح أيضا أن بعض الجرائم ضد المسيحيين لا تستهدفهم لذاتهم، بل تستهدف إحراج النظام أساسا، إلا أن البعض الآخر من الحوادث يستهدف المسيحييين لذاتهم بحكم اختلافهم الديني، وهذا النوع الأخير يدخل في إطار الجرائم الطائفية الناتجة عن وجود المناخ الطائفي الذي تسهم في تأجيجه عناصر متعددة، بعضها يرتبط بالسلطة وبعضها يرتبط بالمواطنين، مسلمين أو مسيحيين.
بعض الجرائم ضد المسيحيين لا تستهدفهم لذاتهم، بل تستهدف إحراج النظام أساسا، إلا أن البعض الآخر من الحوادث يستهدف المسيحييين لذاتهم بحكم اختلافهم الديني
تكرار الجرائم والتفجيرات بحق دور عبادة مسيحية وروادها، والتي أوقعت العديد من القتلى والمصابين، أسهم في ترسيخ مشاعر الخوف لدى
الأقباط، ودفع بعضهم للهجرة من مصر، كما دفع العديد من مراكز صنع القرار الدولية ومنظمات المجتمع المدني للتحرك بحجة الدفاع عن المسيحيين الذين يتعرضون لهذه الجرائم، وفتح الباب بذلك للمزيد من التدخل الأجنبي في شؤون مصر الداخلية؛ التي تقع بالفعل بشكل لافت تحت الهيمنة الأجنبية منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013. لكن هذا التدخل الأجنبي لن يوفر بدوره أمنا للأقباط، بل سيتسبب في المزيد من الاحتقان الطائفي الذي يدفع ثمنه الأقباط والمسلمون معا.
لقد
ارتكبت الكنيسة القبطية خطأ قاتلا بتبنيها موقفا معاديا لحكم الرئيس مرسي، وتحريك المظاهرات ضده، ودعمها لانقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، لكن ذلك ليس مبررا على الإطلاق لأي من الجرائم التي وقعت أو تقع ضد الأقباط وكنائسهم، بل إن المواجهة الصحيحة تكون بمواجهة المظالم أو المخاوف المشروعة أو غير المشروعة للأقباط عبر حوار وطني جاد، يعطي كل ذي حق حقه، ويلتزم فيه كل طرف بواجباته تجاه بقية أبناء الوطن، وتجاه الوطن ذاته؛ الذي يفرض دستوره المساواه بين أبنائه في الحقوق والواجبات، وهو ما يعنيه مفهوم المواطنة.
لا يبدو أن قيادة الكنيسة قادرة على الخروج من "ورطتها" في دعم السيسي، وهذه خطيئة جديدة بحق وطنها وشعبها، ومن واجب كل مخلص أن يساعد الكنيسة في تبني الخيارات الوطنية الصحيحة
يحرص
نظام السيسي على إبقاء المناخ الطائفي المتوتر وتوظيفه لصالحه، عبر بث المزيد من الخوف في نفوس الأقباط، وتقديم نفسه باعتباره الحامي لهم، حتى يضمن استمرار ولائهم ودعمهم، في وقت تلاشى عنه هذا الدعم من الفئات الأخرى التي ساندته من قبل، نكاية في الإخوان أو طمعا في جزء من كعكة السلطة والثروة. ويدرك بعض عقلاء الأقباط أن (بعض) الحوادث هي من صنع النظام، لكن غالبية الأقباط لا يستمعون إلا لرؤية قيادة الكنيسة، فهي حصنهم وسندهم. ولا يبدو أن قيادة الكنيسة قادرة على الخروج من "ورطتها" في دعم
السيسي، وهذه خطيئة جديدة بحق وطنها وشعبها، ومن واجب كل مخلص أن يساعد الكنيسة في تبني الخيارات الوطنية الصحيحة التي تجلب النفع وليس الضرر.
يستطيع الأقباط من خلال حوار وطني جاد أن يطرحوا همومهم ومشاكلهم، ومخاوفهم، وسيكتشفون أن بعضها "متوهمة"، كما سيكشف غيرهم أن بعضا من مطالبهم ومخاوفهم مشروعة بالفعل، ويصبح واجبا إزالة تلك المخاوف وذاك الغبن، حتى يختفي المناخ الطائفي، ويعرف كل مواطن حدوده وحقوقه.
في مواجهة حرص النظام العسكري على اختطاف الأقباط كرهائن يوظف مخاوفهم لصالحه، يصبح من واجب كل القوى المدنية (إسلامية وليبرالية ويسارية) السعي لتبديد تلك المخاوف
تحكم العلاقة بين السيسي والأقباط
معادلة المساندة مقابل الأمن، لكن السيسي عجز عبر السنوات الخمس الماضية عن توفير الأمن للمسيحيين، بينما يظل يحصد دعمهم ومساندتهم، في الداخل والخارج، حتى أصبح المسيحيون هم الكتلة المتماسكة الوحيدة تقريبا التي حافظت على دعمها للنظام، وبذلك وضعت نفسها بطريقة غير مقصودة في مواجهة مع أغلبية متضررة من النظام وتتمنى رحيله. وفي مقابل عجز نظام السيسي عن توفير الأمن للمسيحيين (عانوا في عهده ما لم يعانوه من قبل، حيث تجاوز حجم الجرائم والتفجيرات والضحايا منذ الانقلاب حجمها وعددها خلال 30 سنة؛ هي فترة حكم مبارك)،
يعمد السيسي لإرضاء المسيحيين ببعض المظاهر الأخرى مثل
تقنين أوضاع مئات الكنائس التي بنيت بطرق مخالفة للقوانين، لكن ما لا ينتبه إليه المسيحيون هو أن هذا التقنين يتم وفق صفقات سياسية، وليس وفقا لبيئة قانونية، وتلك الصفقات السياسية خاضعة بالتأكيد لمزاج النظام ومدى احتياجه لمساندة مسيحية ومدى استجابة الكنيسة لذلك، وهذا لم ولن يكون هو الحل الصحيح لمشكلة بناء دور العبادة للمسيحيين، بل إن الحل هو تشريعات قانونية مستقرة تأتي تتويجا لحوار وطني، وتضع نظما وقواعد محددة لبناء المساجد والكنائس، بحيث يتم تطبيقها بشكل تلقائي دون الحاجة لوساطات أو صفقات.
في مواجهة حرص النظام العسكري على اختطاف الأقباط كرهائن يوظف مخاوفهم لصالحه، يصبح من واجب كل القوى المدنية (إسلامية وليبرالية ويسارية) السعي لتبديد تلك المخاوف، ونزع ذلك السلاح من يد النظام العسكري، والتوافق عبر حوار وطني جامع على ترسيخ دولة القانون والمساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن مسلمين ومسيحيين، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بعد الخلاص من الحكم العسكري وبناء دولة مدنية حديثة تحترم الدستور والقانون وحقوق الإنسان.