يقتلنا الاحتلال بالرواية قبل أن يقتلنا بالرصاص، ذلك أن الرواية التي ينسجها توفر الغطاء السياسي الذي يخفف وقع جرائمه في العالم، وهو ما يوفر له فرصةً للتمادي في سياساته الاستيطانية والتهجيرية والعدوانية.
تأبى الفطرة الإنسانية أن تقبل بالعدوان السافر والقتل المجرد، فلو ظهر جندي مدجج بالسلاح يقتل طفلاً أعزل لا يمثل خطراً عليه لأدان العالم كله هذه الحادثة. إذاً، كيف يواصل الاحتلال جرائمه ضد الإنسانية ويحظى بغطاء دولي في ذلك؟
تنسج دولة الاحتلال روايةً تخلط بها الحقائق وتضخم بها مظلوميتها، وتضخم في المقابل خطر عدوها، فيقع كثيرون أسرى لهذه الرواية الصهيونية، وهو ما يدفعهم للتغاضي عن جرائم الاحتلال؛ مبررين هذا الموقف بأن القضايا الكبيرة تتجاوز التفاصيل الصغيرة، ولو افتضح أمر مجزرة ارتكبها الاحتلال؛ فلن يجد الناطقون باسمه ضيراً من القول إن لكل حرب أخطاءها. فهم يقرون بالخطأ حين يكتشف أمره، لكنهم يضعونه في سياق أكبر ليهونوا من إضراره بهم.
هناك عامل تاريخي يترافق مع تأسيس دولة الاحتلال، وهو المجازر التي ارتكبت بحقهم في أوروبا، وهو ما أوجد صورة الشعب المضطهد الباحث عن وطن قومي يأوي إليه ويحتمي به. هذه الصورة أوجدت الغطاء الذي سمح بنشوء دولة الاحتلال، وغض النظر عن مجازر التهجير وسلب الأراضي والممتلكات بحق شعب
فلسطين. فمظلومية
اليهود مثلت قوة دفع كبيرة؛ سمحت بإنشاء دولة والاستمرار في دعمها وتقويتها. لذلك، فإن مشروع الاحتلال في الوقت الذي يحرص فيه على حيازة كل وسائل القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، فإنه يحرص في الخطاب الإعلامي على بقاء صورة
المظلومية؛ لأن هذه الصورة هي التي تضمن استمرار الدعم الدولي وبقاء شعور الذنب في الوعي الغربي الجمعي تجاه اليهود، وهو ما تتبعه رغبة في هذا الوعي الجمعي بالتكفير عن هذا الذنب؛ باستمرار تدفق الدعم والنصرة لدولة الاحتلال. وكذلك، فإن صورة المظلومية اليهودية تحرم الفلسطينيين من احتلال موقع المظلومية، وتشكيل وعي إنساني ينتبه إلى ممارسات التهجير والاستيطان والعدوان الواقعة على هذا الشعب منذ قيام دولة الاحتلال على أراضيه المسلوبة.
هناك حركة تضامن عالمي واسعة النطاق مع الشعب الفلسطيني، وحتى في المستوى الرسمي، فإن أكثر دول العالم تصوت لصالح الفلسطينيين في الأمم المتحدة، فهل يعني هذا أن الفلسطينيين نجحوا في معركة الرواية؟
يقول المؤرخ
الإسرائيلي الأصدق والأشد انحيازاً للعدالة، إيلان بابيه: "بينما السياسات الإسرائيلية تنتقد وتدان بشدة، فإن طبيعة النظام الإسرائيلي والأيديولوجيا التي تنتج هذه السياسات لا تُستهدف من حركات التضامن.. النشطاء والداعمون يتظاهرون ضد مجزرة غزة عام 2009 وضد الاعتداء على الأسطول عام 2010، لكن لا يبدو أن أحداً يجرؤ على مهاجمة الأيديولوجيا التي تقف خلف هذه الاعتداءات. لا يوجد احتجاج ضد الصهيونية؛ لأنه حتى البرلمانات الأوروبية ستعتبر مثل هذا الاحتجاج معاداةً للسامية.
تخيل أيام جنوب أفريقيا العنصرية ألّا يكون مسموحاً لك بالتظاهر ضد نظام الأبارتهايد؛ ولكن يُسمح لك فقط بالتظاهر ضد مجزرة سويتو التي ارتكبتها حكومة جنوب أفريقيا!".
ما يهمني من اقتباس إيلان بابيه هو أن علينا أن نطرق القضايا الكبرى وندخلها إلى دائرة الحضور العالمي، فليس أقصى أمنياتنا أن يتعاطف العالم مع القتلى والجرحى الذين يسقطون برصاص الاحتلال، إذ إن هذا التعاطف مؤقت يزول بعد ساعات أو أيام، لكن مسعانا يجب أن يتركز على خلق وعي عالمي حول أم القضايا، وهي المشروع الصهيوني وطبيعته لاستيطانية الإحلالية، وكيف تحوّل ملايين الفلسطينيين منذ سبعين عاما إلى مظلومين يدفعون ثمن هذه المظلومية اليهودية!
هذه الملاحظة التي ينبه إليها المؤرخ الإسرائيلي الشجاع إيلان بابيه؛ نبهني إليها أيضاً الأسبوع الفائت صديق كندي متضامن مع
حق العودة، في أعقاب نشر صحيفة نيويورك تايمز تقريراً يثبت إدانة الاحتلال في قتل المسعفة الشهيدة رزان النجار.. قال لي إن التيار الأوسع من الصهيونية الليبرالية في أمريكا الشمالية قد لا يتفقون مع سياسات حكومة الاحتلال، وقد يدينون إفراطها في استعمال العنف أو في حصار غزة، لكنهم يتفقون على ضرورة دعم دولة إسرائيل وطناً قومياً لليهود، ومدى تعاطفهم مع الشعب الفلسطيني يقع في حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، لكن لا إلى قضية اللاجئين وحق العودة، إنما يركز على الاحتلال الواقع منذ عام 1967، فلا أحد يذكر حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. ويواصل الصديق الكندي أنه حتى خطاب السلطة الفلسطينية ذاتها لا يتطرق إلى قضية اللاجئين.
هذا ينبهنا إلى ضرورة إعادة الاعتبار في تصدير روايتنا إلى العالم، فالأسس التي قام عليها المشروع الصهيوني منذ أول يوم مثلت جريمةً بحق ملايين الفلسطينيين الذين لا يزالون يدفعون ثمن جريمة الطرد والتهجير وسلب ممتلكاتهم إلى اليوم؛ في مخيمات البؤس والشتات.
من المفيد في الخطاب الإعلامي الفلسطيني الفصل بين اليهودية والصهيونية، فالخوف اليهودي من تكرار رعب الهولوكوست هو خوف حقيقي، ويمثل عاملاً رئيساً من عوامل رفض حق العودة، حتى من قبل الذين يصنفون بأنهم حمائم سلام، مثل عاموس عوز، أحد أهم رموز اليسار الإسرائيلي؛ الذي توفي الأسبوع الماضي. إذ كان هذا الرجل قد كتب في حياته: "اليهود والعرب يستطيعون، بل يجب أن يعيشوا معاً، لكن من غير المقبول مطلقاً أن يتحول اليهود إلى أقلية تحت حكم العرب؛ لأن معظم الأنظمة العربية في الشرق الأوسط تضطهد الأقليات وتذلهم. والأهم من ذلك: لأني أصر على حق الشعب اليهودي مثل أي شعب أن يكونوا أغلبيةً ولو في قطاع صغير من الأرض".
هذا الرفض العميق لحق العودة من الغالبية العظمى من مختلف أطياف المجتمع الإسرائيلي، بدافع الخوف الدفين من الغرق في بحر من الأعداء، ينبغي أن يواجه بخطاب فلسطيني لا ينكر حق اليهود في العيش بأمان وسلام، ولكن يرفض أن يكون تحقيق الأمن لليهود على حساب شعب آخر، سواءً الشعب الفلسطيني أو غيره. إن من المشروع أن يشعر اليهودي بالقلق من المستقبل، وأن يساعده العالم بتقديم ضمانات لتوفير الأمن والحماية له، لكن ليس من المشروع مطلقاً أن يكون ذلك على حساب ملايين اللاجئين المشردين، وسرقة الأرض واستمرار سياسات التهجير والاستيطان والعدوان.
إذا كانت دولة "إسرائيل" قد غدت أمراً واقعاً يجب الاعتراف به، فإن معاناة سبعة ملايين لاجئ فلسطيني منذ سبعين عاماً إلى اليوم، والذين لا يزالون ينتظرون عودتهم إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي هُجروا منها قسراً ولم يقبلوا بالتوطين في الغربة، هو واقع أيضاً يجب تقديم حلول عادلة لإنهائه.
كان يمكن القبول بفكرة "يهودية إسرائيل" - تجاوزاً- لو لم تكن على حساب مأساة شعب آخر، أما وأن هذه الدولة أسست على أنقاض القرى والممتلكات التي لا يزال أهلها يناضلون في سبيل العودة إليها، فإن الحديث عن اليهودية هو تكريس لواقع التطهير العرقي والتمييز العنصري وجرائم الحرب. وكون اليهودي مظلوماً في تاريخه لا يبرر له أن يتحول إلى ظالم مضطهد لشعب آخر، لذلك لا مناص من تخلي اليهود عن الفكر الصهيوني؛ كونه فكراً عنصرياً عدوانياً استيطانياً بالضرورة، وقبولهم بالتعايش السلمي مع السكان الأصليين بعد استعادة أراضيهم وممتلكاتهم المسروقة، أما المخاوف اليهودية من التحول إلى أقلية مضطهدة فيمكن معالجتها عبر توفير ضمانات دولية لحقهم في العيش بأمن وسلام بعد إعادة الحقوق للسكان الأصليين.