(1)
يقول الفرنسيون إن الأحلام هي بذرة
الندم. وبتحديد أكثر، فإن أحلامنا في فترة الشباب والحماس والاندفاع، تصبح هي نفسها فوهات الندم عندما نكبر وننضج، ونتحسس ندوب الرحلة المليئة بالانكسارات والهزائم والإصابات من كل نوع. فهل الندم حقاً مجرد عقاب على الحلم؟
(2)
يقول الإنجليز إن الندم طريق خادع يجرنا نحو فخ الوقوع في إخدود الماضي، ولعل كلام شكسبير على لسان "الليدي ماكبث" أوضح تعبير عن هذا الرأي، إذ تقول: إن الأشياء التي لا نملك استعادتها من الماضي لتغييرها، يجب أن لا نندم عليها "لأنها ستحبسنا في الوراء وتمنعنا من المرور إلى المستقبل".. المقولة تبدو تقدمية، لكن إذا عرفنا أن مصير ليدي ماكبث انتهى إلى الجنون والانتحار لمجرد أنها لم تستطع منع نفسها من الندم، فإننا نحتاج إلى تفكير أعمق في عبارتها التي كانت تستخدمها لتحريض زوجها (الأمير ماكبث) على قتل الملك والاستئثار بالعرش.
(3)
اخترت أن نبدأ موضوع الندم من أرض بعيدة، فاستخدمت أقوال الإنجليز والفرنسيين، لنحتفظ بمسافة آمنة تسمح لنا بالنظر للموضوع بلا تورط شخصي متعجل قد يوقعنا في الندم. ومع ذلك، راجعت مفهوم الندم في اللغة وفي القرآن الكريم، وفي علم النفس وفي الفلسفات القديمة والحديثة، ووجدته كالحب، وككل المشاعر الرئيسة السارية في حياتنا، نمارسها ونتحدث عنها كثيراً، لكنها تظل خارج الأطر بلا تقييم قطعي وبلا موقف نهائي معها أو ضدها. فهناك من يحبذها، وهناك من يلعنها، وهناك من يجمع بين الموقفين فيلعنها؛ لأنها يحبذها ثم لا يحصل عليها. لكن في كل الأحوال، يظل هناك معنى متصل في الندم، وهو أنه "أسف على شيء خاطئ وقع في الماضي نتيجة قلة الوعي أو نتيجة الحسابات الخاطئة"، وبالتالي فإن الندم يصبح سلبياً إذا جرنا إلى الماضي وفقط؛ لأننا لن نستطيع استعادة الماضي ولا تغييره، وكل ما سنفعله حينذاك هو ما يسميه العرب: "البكاء على اللبن المسكوب". أما إذا كان الندم دافعا للتعلم وتحصيل الخبرة من أجل عدم تكرار الخطأ في المستقبل، فإنه يكون وسيلة مفيدة للتعلم وللتطور، ويقترب من منظومة الضمير الإنساني وتوجيهات "الأنا الأعلى".
(4)
لماذا أكتب عن الندم؟
لأنه تحول إلى صيحة للاستتابة السياسية، كما تحول إلى رغبة نفسية لدى الأفراد والجماعات في إدانة الآخر وانتزاع اعترفات معلنة بخطأ تقديراته. والمؤسف، أن ذلك لا يتم من أجل التقدم نحو المستقبل بخبرة اتفاقية، ولكن من أجل استعادة الماضي، وهذا لا يحدث فقط من معسكر ما يسمى "أنصار الشرعية"، لكنه يحدث من جميع المعسكرات، واستخدم تعبير "المعسكرات"؛ لأن مجتمعاتنا المسرطنة تحولت إلى فئات متحاربة "تتعسكر" كلها ضد بعضها البعض، وأصبحت محاولة التواصل والمرور بين معسكر وآخر تقتضي "استتابة" واعتراف بالخطأ وبالندم. نظام السيسي وأجهزته الأمنية لا يمانعون في التصالح مع عناصر من المعسكرات الأخرى، شرط الندم والتوبة وإعلان الخطأ. والحال نفسه لدى معسكر "الشرعية" الذي لا يقبل أفرادا من بقية المجتمع إلا بإعلان توبتهم عن 30 يونيو، وكذلك تفعل بقية الأحزاب والحركات السياسية التي تمارس التصنيف وتقسيم الشعب إلى فئات، بينما تدعي أنها تدافع عن دستور ينص (ككل دساتير العالم) على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين.
(5)
أسأل مرة أخرى: لماذا أكتب عن الندم؟
وسوف أحاول هذه المرة أن اقدم إجابة شخصية، لأنني لا أحب شعور الندم، وهذا يزعجني ويطرح على عقلي الكثير من أسئلة الشكوك، منها مثلاً: هل أنا من النوع الذي يكابر في الاعتراف بالخطأ؟ هل الندم يعني اعترافاً بأن "الآخر" الذي يطالبني بالندم لديه حق عندي، وبالتالي أخشى من أن أعترف بديون لا أفكر في سدادها، أو أقر بتبعية المخطيء للمصيب؟ والأهم من ذلك: هل إعلان الندم يكفي للحصول على تأشيرة إقامة وسط جماعة أو فئة كنت تقف ضدها من قبل لأسباب ترتبط بوعيك الفكري أو السياسي؟ وهل يمكن بعد إعلان الندم أن تظل تمارس تلك القناعات الفكرية والدور السياسي؟
يقول الفلاسفة إن الندم يعني عواراً في الوعي؛ لأن الندم إحساس متأخر لا يحدث أبداً في توقيته السليم، فهو يأتي بعد فوات الفائدة منه، وبالتالي فإن الحديث عن الندم لا يصلح (في رأيي) كحديث سياسي، حيث يمكننا في السياسة الحديث عن أخطاء، أو عن ظروف وملابسات، أو عن تقديرات يجب تصحيحها لتلائم المتغيرات وتناسب المستقبل.. أما الندم، فإنه يظل أقرب دائما للدوران السلبي في الماضي، لهذا لا أحبه حتى لو اتخذت بعض القرارات الخاطئة أو أيدت بعض المواقف التي ثبت ضررها، ما أحبه هو تصحيح القرارات وتعديل المواقف بما يلائم الخبرة المكتسبة، وبما يساعد على تحقيق الأهداف التي نسعى من أجلها. وأعتقد أن "المعسكرات المتحاربة" تتفق في ظاهر الأهداف أكثر مما تتفق في العمل على تحقيقها، فكل طرف "يحارب" الآخر باعتباره الأجدر بتحقيق نفس الأهداف تقريباً، وبالتالي فإن الصراع السياسي في رأيي ظل مختزلا في حلبة الصراع من أجل الحكم، من يقود ويحكم ويتحكم، وليس من يتعاون مع الجميع من أجل تحقيق أهداف لا يختلف عليها المتصارعون، فلا أحد منهم ضد الوطن (كما يزعمون)، ولا أحد منهم ضد الأمن والحرية والناس (كما يزعمون)، لكن ممارسات الجميع تثبت أن الوطن والأمن والحرية والناس مجرد ذرائع للحكم، ومجرد شعارات يستخدمها المتصارعون كوعود لا تتحقق، بينما السياسة الواقعية تظل هي النفي والخوف والقمع والفقر.
(6)
أسأل مرة ثالثة: لماذا أكتب عن الندم؟
وصلتني على مدى 18 شهراً رسائل متنوعة بالعدول عن الطريق الذي سلكته منذ تموز/ يوليو 2017، عندما خرجت مضطراً من بلدي. معظم الرسائل من جانب السلطة بتشكيلاتها ومستوياتها المختلفة، وبعضها (المُوجِع) من جانب رفاق وأصدقاء.. الرسائل تختلف في طلباتها ومضامينها ولغتها، لكنها تتفق على أن إقامتي في تركيا خطأ يجب تصحيحه والندم عليه. وفي الأسابيع القليلة الماضية، وصلتني رسالة من صديق مقرب (أثق فيه جدا) يطالبني باختيار أي مدينة في العالم غير إسطنبول؛ لأن البقاء في هذه المدينة لا يليق بتاريخي، ويؤثر سلباً على نزاهة ما أكتبه وما أقوله. وفي نفس التوقيت تقريبا اتصل شخص مرموق من داخل النظام بصديق مشترك (نقل الرسالة بتفاصيلها وحواشيها وانفعالاتها)، وكانت لغة الرسالة مغلفة بالتقدير والود، لكنها لم تخل من عتاب أقرب للتحذير؛ تضمنته عبارة بسيطة تقول كلماتها كما وصلتني: "الجماعة متغاظين جدا من اللي بتعمله وبيقولوا كفاية كده"، وجانب الود والتقدير يتمثل في التفاوض على عرض بالعودة "اللائقة".
(7)
طوال الشهور الفائتة وأنا أفكر جدياً في العودة لمصر، وتحديدا منذ اعتقال مجموعة العيد، ويتمثل الجانب العاطفي لهذا القرار في وعد بالعودة أعلنته حال اعتقال الصديقين الدكتور يحيى القزاز والسفير معصوم مرزوق للمواجهة من الداخل. أما الجانب السياسي، فيتمثل في محاولة سد الفراغ الذي تركه غياب "رفاق التصدي المباشر" لسياسة الخوف وأساليب الترهيب الذي يتبعها النظام، فقد خسرت
المعارضة الكثير من الأصوات بتصاعد محموم في أعقاب اعتقال المستشار هشام جنينة والفريق عنان، ثم تكسير أصوات المواجهة الشجاعة المتمثلة في مؤسسات مثل "
مصر العربية" و"البديل"، وفي أفراد مثل عادل صبري وحازم عبد العظيم، انتهاء بما حدث للسفير مرزوق ومعتقلي حملة عيد الأضحى، لكنني بعد التعرف على تفاصيل الرسالة (بما تضمنها من عرض ظاهر وتهديد مبطن، وبما تلاها من معلومات عن حملات استقصاء لجمع معلومات من أكثر من جهة عني تمهيداً لتدبير قضايا أو "تصرفات أخرى"!!).. فكرت جديا في التوقف عن التفكير في قرار العودة طالما بقى السيسي ونظامه في الحكم، وهذا القرار يقتضي مني ترتيبات أكثر حصافة لمنفى طويل (إلا أن يشاء الله)، شريطة ألا ينال هذا
المنفى من قدرة على المواجهة التي تراجعت كثيرا في عام 2018 لأسباب سأتحدث عنها في مقالات مقبلة. فعدم الندم لا يعني غياب النقد، فلا بد أن ننقد أنفسنا وننقد الآخرين إذا كان في النقد ما يعفينا من رعونة الأخطاء ومن جرائر الندم.
وفي الأسبوع المقبل نواصل حديث الستين.
tamahi@hotmail.com