نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا مشتركا لكل من غوردون بينكوك وديفيد راند، وهما عالمان نفسيان، تحت عنوان: "لماذا ينجر الناس وراء الأخبار المزيفة؟"، يتساءلان فيه عن سبب هذا الانجرار، وإن كان عبارة عن عمى وجهل أو أنه مجرد كسل فكري.
ويحاول الكاتبان في مقالهما، الذي ترجمته "عربي21"، البحث عن تعرض الناس للأخبار المزيفة وحملات التضليل وماذا يمكن عمله.
ويقول الباحثان إن "أسئلة كهذه تحتاج لأجوبة ضرورية، لأسباب ليس أقلها الكشف عن التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية في عام 2016، من خلال نشر الدعاية عبر منابر وسائل التواصل الاجتماعي، وبشكل عام يبدو أن ثقافتنا أصبحت مسكونة بناس يؤمنون بأفكار خاطئة وغريبة، وتدعم عادة أيديولوجيتهم السياسية".
ويضيف الكاتبان أن "الأخبار الجيدة هي أن المحللين النفسيين والاجتماعيين يعملون من أجل منع الناس من الوقوع في أسر الدعاية المزيفة، أما الأخبار السيئة فهي أنه لا يوجد جواب متفق عليه لحل المشكلة، ومعظم النقاش الدائر بين الباحثين يدور حول معسكرين متضادين: ويقول معسكر إن قدرتنا على التعامل بعقلانية تتأثر بمواقفنا الحزبية ومعتقداتنا المتحزبة، أما المعسكر الثاني، (الذي ينتمي إليه الكاتبان)، فهو أن المشكلة نابعة من فشلنا في استخدام ملكاتنا العقلية، وأننا كسالى من الناحية العقلية".
ويستدرك الكاتبان بأن "الأبحاث الأخيرة تشير إلى أن هناك أملا على جانبي النقاش، ويبدو أن المعسكرين يتفهمان وجود مشكلة، فعندما نفهم أن المشكلة هي سبب لعملية تفكير عقلاني، أم أنها نتيجة لكسل فإننا سنعرف العوامل التي تؤدي دورا في كيفية تشكيل حلول لمواجهة المشكلة، وفي أي أوضاع يمكننا توجيه السياسة لها".
ويرى الباحثان أن "المعسكر العقلاني، الذي حقق تقدما في السنوات الأخيرة، بني على سلسلة من النظريات، ويتفهم أننا عندما نواجه موضوعات سياسية مثيرة للجدل يقوم الناس باستخدام قدراتهم العقلية لإقناع أنفسهم بتصديق ما يريدون تصديقه، بدلا من محاولة البحث عن الحقيقة".
ويشير الكاتبان إلى أنه "بناء على هذا المفهوم، فإن العاطفة السياسية تجعل الناس لا عقلانيين، خاصة إن أبدوا ميلا لاستخدام العقل والتفكير في سياقات أخرى، وتأتي بعض الأدلة المثيرة للاهتمام من دراسة مؤثرة صدرت في عام 2012، حيث وجد أستاذ القانون دان كاهان وزملاؤه أن مستوى الاستقطاب السياسي في موضوع التغيرات المناخية كان أعظم لدى الناس ممن حصلوا على علامات عالية في المعرفة العلمية والأرقام، وأكثر من الذين كانت علاماتهم متدنية".
ويجد الباحثان أنه "من الواضح أن أصحاب العقلية (التحليلية) في داخل الحزب الديمقراطي أقنعوا أنفسهم بأن التغيرات المناخية مشكلة، أما الجمهوريون من أصحاب العقلية (التحليلية) فأقنعوا أنفسهم أن التغير المناخي ليس مشكلة، ووجد البروفيسور كاهان النتائج ذاتها عندما حاول فحص المواقف من التحكم بحيازة السلاح، حيث قام عن قصد بالتلاعب بالمنحنى الحزبي للمعلومات التي طلب من المشاركين الدخول إليها".
ويقول الكاتبان إن "التداعيات هنا عميقة: فالتفكير العقلاني قد يفاقم المشكلة، ولا يساهم في الحل عندما يتعلق بالخلاف الحزبي حول الحقائق، وهناك أدلة أخرى تأتي من دراسة أخرى تعود إلى عام 2010، قام بها العالم السياسي بريندان نيان وجيسون ريفلر، اللذان وجدا أن إضافة تصحيحات لمقالات تحتوي على معلومات مضللة قد ترتد بآثار عكسية: فلم يفشل التصحيح في تخفيف سوء الفهم، بل زداه في بعض الأحيان".
ويوضح الباحثان بالقول: "يبدو أن الناس كان لديهم ميل أيديولوجي قوي للإيمان بالزيف المقدم إليهم، ما يعني أن محاولة تقديم تصحيح عقلاني أدى إلى تقوية إيمانهم بالزيف".
ويستدرك الكاتبان بأن "محاولة (عقلنة) كهذه رغم قوتها في بعض السياقات، إلا أنها لا تدهشنا بأنها التفسير الطبيعي أو العام لضعف الإنسان أمام حملات التضليل، ونعتقد أن الناس لا يفكرون بطريقة نقدية وكافية حول المعلومات التي يواجهونها".
ويلفت الباحثان إلى أن "الدراسات في مجال علم نفس المعرفة تظهر أن هناك قدرا من العقلنة يجري باتجاه تشكيل المعتقدات الصحيحة، فالأشخاص الذين يفكرون بطريقة تحليلية، أي من يقومون باستخدام مهاراتهم التحليلية، وليس الاعتماد على حدسهم، لديهم قدر قليل من الميل للخرافة، أو الإيمان بنظريات المؤامرة، وأقل تقبلا لتأكيدات عميقة لكنها فارغة، ويشير هذا الكم من الأدلة إلى أن السبب وراء ميل الناس للإيمان بالأخبار الزائفة له علاقة بالكسل المعرفي، خاصة في مجال وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم تجاهل المعلومة، ولا ينظر إليها إلا بالقدر اليسير".
وقام الباحثان بعمل سلسلة من الدراسات من أجل فحص هذه الإمكانية، عبر فيها مشاركون من معتقدات سياسية مختلفة عن إيمانهم بتقارير إخبارية، وقام الباحثان بتقديم عناوين إخبارية منتقاة من الإعلام، كان بعضها صحيحا فيما كان الآخر زائفا، وحاول الباحثان مشاهدة إن كان المشاركون سيسألون عن صحة المعلومات، أم أنهم سيحاولون الاعتماد على حدسهم، وذلك من خلال إكمال فحص يطلق عليه "التأمل المعرفي"، وهو الفحص المستخدم بشكل واسع في علم النفس والاقتصاد السلوكي.
وينوه الكاتبان إلى أن "الفحص يحتوي على أسئلة مقنعة حدسيا، وبأجوبة غير صحيحة، من مثل: لو كنت تشارك في سباق وتعديت الشخص في المكان الثاني، ففي أي مكان أنت؟ فلو لم تفكر لكان الجواب المكان الأول، مع أن الجواب هو المكان الثاني".
ووجد الباحثان أن الأشخاص الذين مارسوا التأمل المعرفي يستطيعون التفريق بين الحقيقة والكذب، أيا كانت العناوين التي تدعم مواقفهم السياسية أم لا، وفي دراسات لاحقة ستنشر لاحقا وجدا أن هذه النتيجة تكررت من خلال استخدام مشاركين ممثلين وطنيا من ناحية العمر والجنس والعرق والمنطقة ومكان السكن، التي يمكن تطبيقها من أجل التفريق المزاعم الحقيقية عن الكاذبة، وتحديد التغطية الحزبية المفرطة للأحداث الحقيقية.
ويعتقد الكاتبان أن "نتائج أبحاثهم تشير إلى أن تربية القدرات العقلية أو الترويج لها يجب أن تكون في جزء منها الحل لعمليات التضليل الحزبية التي يتم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، كما تقدم دراسة أخرى أنه في سياقات سياسية عالية فإن الناس لا عقلانيون كما يعتقد المعسكر العقلاني، فقد أظهرت الدراسات أن تصحيح التضليل الحزبي لا يرتد عكسا في معظم الحالات، وخلافا لنتائج كل من نيان ويفلر، بل إنه يقود لمعتقدات صحيحة".
ويقول الباحثان إنهما لا يناقشان أن نتائج البروفيسور كاهان، التي تدعم العقلنة، ليست بالضرورة غير موثوقة، لكن ما يشيران إليه هو أن الحالات التي ينحرف فيها التفكير بعيدا هي على ما يبدو الاستثناء لا القاعدة، فـ"التفكير العقلاني لا يتم أسره في معظم الحالات، لكن مواقفنا المتحزبة، ويبدو أن التفكير يؤدي في معظم الحالات إلى تشكيل المعتقدات الصحيحة".
ويختم الكاتبان مقالهما بالقول: "هذا ليس نقاشا أكاديميا فقط، بل له تداعيات على السياسة العامة، وتشير أبحاثنا إلى أن الحل لحملات التضليل السياسي يعني تخصيص المصادر لنشر المعلومات الصحيحة، وكذلك التدريب، وتشجيع الناس على التفكير النقدي، فلن تتخلى عن تفكيرك العقلاني حتى في الأوقات المسيسة، وتذكر أن هذا ينطبق على الأشخاص الذين تختلف معهم".
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)