لا يكاد يخلو يوم من حديث عن صفقة القرن، منذ أن ظهر اسم هذه الصفقة المضمرة للوجود أوّل مرّة، وفي الأيام الأخيرة كَثُر الحديث عن قرب إظهارها للعلن، هذا فضلا عمّا ظلّت تذكره التسريبات حول مضمون هذه الصفقة والحلول التي تتوعد بها، بيد أنّه على مستوى المضمون؛ مما تنقله التسريبات، أو ممّا هو في حكم المؤكد مما ستظهر به هذه الصفقة، لا يتناسب وحجم هذا الاهتمام بها، وكأنّها من هذه الحيثية سوف تأتي بشيء جديد لم يكن متوقعا! مع أنّ الاهتمام ينبغي صرفه للكيفية التي يُتصدّى بها لمحاولة فرضها، وللظروف المهيِّئة لفرضها، وللمسار الذي لا غاية لمآلاته سوى حقيقة هذه الصفقة أيّا كان اسمها، وصورة تخريجها.
ولأننا الآن نتحدث بأثر رجعي عن هذا المسار، فلن نشير إلى القراءات التي رأت مآلاته سلفا منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وسنغضّ الطرف عن ذلك، وسنشير فحسب إلى عدد من الحقائق التي تأكدت بعد انطلاق المسار، وبما دلّ في كل حقيقة من تلك الحقائق، على أنّ المآل لن يكون سوى صفقة القرن هذه من حيث المضمون، ولا نقصد من حيث الإخراج واحتمالات فرضها.
الاهتمام ينبغي صرفه للكيفية التي يُتصدّى بها لمحاولة فرضها، وللظروف المهيِّئة لفرضها، وللمسار الذي لا غاية لمآلاته سوى حقيقة هذه الصفقة أيّا كان اسمها، وصورة تخريجها
وفي حين كانت قيادة منظمة التحرير، ومعها المنظومة العربية عموما، تراهن على "اليسار
الإسرائيلي"، وحكومات حزب العمل، فإنّ الإجماع الإسرائيلي كان منعقدا على إبقاء
السيطرة على الضفة الغربية بنحو ما، ثم بعد ذلك يحصل الاختلاف داخل هذا الإجماع حول حدود السيطرة وشكلها، بيد أنّ الحدّ الأدنى في هذه السيطرة كان يتضمن الاحتفاظ بالقدس بشطريها، وبالحدود الشرقية للضفة الغربية، وبمناطق من الضفة الغربية. ولم تكن خطة إيغال ألون العمّالي من بعد هزيمة العام 1967 إلا تصوّرا للحدّ الأدنى من الاستراتيجية الصهيونية لكيفية السيطرة على الضفّة الغربية. فإذا كان اليمين الإسرائيلي هو الأسوأ بحسب قراءات منظمة التحرير ومجمل المنظومة العربية، فليس علينا أن نتوقع إلا أن يتوسع هذا الحدّ الأدنى ليبلغ أكبر قدر ممكن من السيطرة الفيزيائية على أرض الضفة الغربية، هذا فضلا عن الهيمنة غير المباشرة.
ولم يكن الأمر ليحتاج كلّ هذا الوقت، لنقف على هذه الحقيقة، فإنّ
خطّ التسوية بين
الفلسطينيين، هو الذي صدرت عن ممثليه مرّات عديدة إحصاءات تفيد بالزيادة الاستيطانية في الضفّة الغربية من بعد توقيع اتفاقية أوسلو، بما في ذلك في عهود حكومات حزب العمل. ويمكن لنا أن نتساءل إذا كانت تلك الحكومات، والعمّالية منها، قد أنفقت مليارات الشواكل على التوسعات الاستيطانية لإزالتها كلّها لاحقا بمجرد أن يرغب الفلسطينيون في ذلك؟!
إنّ تلك الحكومات، بالتأكيد، ولو كانت تضمر احتمالية إزالة شيء من الوجود الاستيطاني في تسوية ما، فإنّ التوسعات المستمرّة، في أقل أهدافها، وبالإضافة لخلق أوراق القوّة والمناورة، كانت لغاية بقاء شيء من ذلك الوجود حين إزالة بعضه، وهو ما يقودنا إلى حقيقة أخرى، وهي أن الطرف الفلسطيني في مشروع التسوية قد سلّم مبكّرا ببقاء كتل استيطانية كبرى في الضفة الغربية، وأخذ يطرح حلولا جديدة من قبيل تبادل الأراضي، وهي حلول تعني بالضرورة التسليم بالاستراتيجية الاستعمارية الصهيونية، ولا معنى لذلك إلا أنّ "إسرائيل" كانت تتحكم، بإجراءاتها على الأرض، بالمسار كاملا صوب غايتها القصوى. ولم يكن بمقدور الفلسطينيين ضمن موازين القوى المختلّة، وعجز قيادة مشروع التسوية عن التراجع عنه، إلا إعادة الانطلاق الدائم من النقاط التي استمرّت "إسرائيل" بوضعها في كلّ مرحلة بحسب النتائج التي تبلغها بفرض الوقائع على الأرض.
إذا كانت تلك الحكومات، والعمّالية منها، قد أنفقت مليارات الشواكل على التوسعات الاستيطانية لإزالتها كلّها لاحقا بمجرد أن يرغب الفلسطينيون في ذلك؟
وبالرجوع إلى مفاوضات كامب ديفد بين عرفات وباراك، وفي ظلّ حكومة عمّالية "مستعدة للحلّ"، وإدارة أمريكية أكثر عقلانية من الإدارة الحالية، فإنّ موضوع القدس عموما، ووضع المسجد الأقصى خصوصا، هو الذي فجّر تلك المفاوضات أساسا، فإذا كان ذلك صحيحا، وكانت وحدة شطري المدينة شعارا دائما مرفوعا بين كل القوى الإسرائيلية المؤثّرة بلا استثناء، فإنّه لا يمكن لنا أن نتوقع أن يكون الحال أحسن و"إسرائيل" بالكامل باتت تخضع لهيمنة يمينية مطلقة،
والإدارة الأمريكية الحالية تبدو إسرائيلية أكثر من أيّ شيء آخر!
وإذا كانت صفقة القرن، بالضرورة تتضمن تصفية
قضية اللاجئين، فإنّه لا يمكن لنا القول إنّ القيادة الفلسطينية لخطّ التسوية ومعها المنظومة العربية، كانت متمسكة بالعودة الكاملة المؤسسة على الحق الفلسطيني الخالص، الذي لا يسقطه شيء، ولا يخضع للمساومة، وإنّما طرحوا من عند أنفسهم ما سمّوه حلا عادلا ومتفقا عليها، كما في المبادرة العربية. وبما أنه ينبغي أن يكون متفقا عليه مع الإسرائيليين، فإنّه في جانب منه خاضع للإسرائيليين، وبما أن الإسرائيليين، بموازين القوى التي تنحاز لهم وبوقائعهم على الأرض وبخيبة العرب، هم الذين يقودون هذا المسار كلّه، فلا بدّ وأنّهم سيتحوّلون إلى المتحكم الكامل بهذه القضية كما بقية قضايا الفلسطينيين!
الجديد في وجود إدارة أمريكية قد بنت تحالفا شرق أوسطي يضمّ "إسرائيل" جعل من انشغالاته العمل على فرض هذه الصفقة، التي لا جديد فيها من الحيثية سابقة الذكر.
فما الجديد إذن في صفقة القرن من جهة المضمون؟!
لا شيء، بيد أنّ الجديد في وجود إدارة أمريكية قد بنت تحالفا شرق أوسطي يضمّ "إسرائيل" جعل من انشغالاته العمل على فرض هذه الصفقة، التي لا جديد فيها من الحيثية سابقة الذكر.
هذا يحيلنا إلى السؤال الأهم: إذا لم يعد هناك من يفكر اليوم في تحرير فلسطين، فهل هناك من يعمل على إحباط هذه الصفقة فعلا، وهي أقلّ ما يمكن أن يجمع الفلسطينيون وسعهم لأجله؟!