تحدثنا في مقال سابق عن خمسة من دروس "الربيع العربي"؛ ونتابع في
هذا المقال خمسة أخرى من هذه الدروس:
سادسا: الرموز والقيادات
ربما كان أحد مزايا الثورات
أنها عبرت عن حالة جماهيرية واسعة، تجاوزت الحزبيات والأشخاص، غير أنها افتقرت
بشكل عام إلى القادة الكبار والرموز، الذين يمثلون حالة إجماع أو شبه إجما وطني؛
والذين يتحولون بسرعة إلى رموز مُلهمة للجماهير، والذين يملكون إمكانات قيادية
خاصة تُمكِّنهم من التصرف بحكمة وحزم، ويتحمل الناس معهم عبور المرحلة، بما فيها
من اضطرابات أمنية ومشاكل اقتصادية وتغيّرات مجتمعية، دون أن تتضرر صورتهم أو
مكانتهم.
وللأسف، فإن حركات التغيير
افتقرت لتقديم نماذج كهذه إما لأسباب ذاتية، أو لأسباب موضوعية مرتبطة بأن معظم
الثورات لم تحقق انتصارات حاسمة، وبقيت هناك قوى منافسة أو معادية تملك إمكانات
إعلامية واسعة قادرة على تشويه الرموز، وتملك أدوات قادرة على إفشال المشاريع
والخطط التي تبنتها قوى التغيير وقادتها، والتي كان يمكن أن تحقق نجاحات تلمسها
الجماهير على الأرض.
حركات التغيير افتقرت لتقديم نماذج كهذه إما لأسباب ذاتية، أو لأسباب موضوعية مرتبطة بأن معظم الثورات لم تحقق انتصارات حاسمة، وبقيت هناك قوى منافسة أو معادية تملك إمكانات إعلامية واسعة قادرة على تشويه الرموز
كان الخطاب المتعلق بفلسطين في عدد من هذه الثورات دون المستوى، أو رماديا مرتبكا خجولا، فضاعت أحد أهم عناصر التحفيز والقوة لدى الثورات؛ بينما أتاح ذلك لخصوم تنقصهم المصداقية،
اللافت للنظر، أن قوى
الثورة في "الربيع العربي"، التي كانت بالتأكيد، وعلى رأسها
الإسلاميون، هي القوى الشعبية الأبرز في الدعم الحقيقي لفلسطين، بل وضحّت وسُجنت
وطوردت نتيجة دعمها لهذه القضية، حيث كانت تتعامل مع القضية كرسالة وواجب، وليس
مجرد أداة؛ فإنها عندما صعدت للقيادة السياسية، لم تتعامل مع فلسطين بالدرجة
المأمولة التي تعكس حقيقة موقفها الشعبي، وهو ما سيقدم رافعة حقيقية، توفر له
حاضنة شعبية واسعة. بل وتردد البعض في اتخاذ مواقف واضحة أو حاسمة، بحجة عدم
استثارة الأعداد والخصوم، بينما كان الأعداء يفركون أيديهم فرحا لعدم إنزال
فلسطين منزلتها المستحقة، كعامل أساس وملهم في تكريس هوية الأمة، وفي إعادة توجيه
بوصلتها، واستعادة كرامتها؛ بل وتحصينا للثورة وإثباتا لمصداقيتها؛ إذ إن
مفهوم الثورة بحدّ ذاته مفهوم مرتبط أساسا بالحرية والتحرير والكرامة. كما أن أحد
شروط النهضة والوحدة، ومن ثَمّ أحد شروط نجاح الثورات، هو الانفكاك عن الهيمنة
الصهيونية والغربية، وهي رسالة يفهمها المواطن العادي.
كان الخطاب المتعلق بفلسطين في عدد من هذه الثورات دون المستوى، أو رماديا مرتبكا خجولا، فضاعت أحد أهم عناصر التحفيز والقوة لدى الثورات؛ بينما أتاح
ذلك لخصوم تنقصهم المصداقية، الفرصة للهجوم على الثورات نفسها، بحجة تقصيرها في حق
فلسطين.
ثامنا: شبكة أمان وطنية
تحتاج كل ثورة إلى شبكة أمان وطنية، تمثل الأغلبية الشعبية والقوى السياسية
الفاعلة على الأرض، التي تلتقي على المشتركات الأساسية، بحيث تقدم الحماية
المناسبة للثورة، خصوصا في المرحلة الانتقالية. ويجب أن تتشكل من القوى القادرة
على فرض إرادتها على مسار الأحداث، وعلى قطع الطريق على الانقلابات العسكرية، وعلى
محاولات تمزيق وتفتيت قوى الثورة، وعلى مواجهة التدخلات الخارجية.
ومهما كان الاتجاه الرئيسي قويا، فعليه أن يوسع دائرة تحالفاته، ويعطي
شركاءه المتوافقين معه على المسارات العامة أدوارا حقيقية؛ بحيث تنتزع الثورة
الاعتراف الإقليمي والدولي، وبحيث تصبح الثورة عصية على الحصار الخارجي، وبحيث لا
يتم الاستفراد بالتيار الرئيس، ولا يتم استخدام القوى المتنافسة في ضرب بعضها
بعضا، ولا يكون بعضها "حصان طروادة" للتدخل الخارجي.
تاسعا: شبكة أمان إقليمية
بينما انشغلت الثورات بهمّها الوطني، وانكفأت على ذاتها، لتؤكد أنها غير
"عابرة للحدود"، وحاولت أن تُطمئن بعض القوى المحلية على هويتها
الوطنية، وأن تُطمئن القوى الغربية على عدم وجود طموحات "قومية" عربية،
أو "إسلامية" (أُمتيّة)؛ قامت قوى إقليمية بتنسيق جهودها فيما بينها،
ومع قوى دولية للإطاحة بالثورات، بينما كان إعلام هذه القوى يصب جام غضبه على قوى
الثورة، ويتهمها باللاوطنية والطموحات العابرة للحدود (وكأن الانتماء للأمة وتبني
قضاياها، ليس مصدر فخر وإنما منقصة يُخجَل منها)، لتجد الثورة نفسها في حالة
دفاعية، وليجد بعضهم في الانكفاء الداخلي دليلا على وطنيتهم.
وكان الأولى بقوى الثورة أن تبحث عن شركائها الإقليميين، وأن تلجأ إلى
"الإسناد المتبادل" فيما بينها، فتدعم بعضها بعضا للوقوف على أقدامها، دون
أن تخجل من هويتها، ولا من انتمائها لأمتها العربية والإسلامية، بالإضافة إلى
منظومة المصالح التي تجمعها. ولو استُخدم هذا الأسلوب بفعالية في بداية الثورة بين
مصر وليبيا وتونس، وانضم لهم السودان الذي كان قريبا من خطهم، لربما صَعُب على
القوى المضادة للثورة الاستفراد بكل دولة على حدة.
من جهة أخرى، كان ينبغي إدارة حوارات مفتوحة مع عدد من القوى الإقليمية
الوازنة، للبحث عن المشتركات والمصالح المتبادلة والبناء عليها، ولتبديد العديد من
المخاوف والشكوك التي لم تكن في مكانها؛ حيث أخذت هذه الدول الكثير من معلوماتها
من الإعلام الغربي ومن أدواته المخابراتية والدبلوماسية؛ فصار لها مواقف معادية
منذ البداية. ولم يكن من الضروري أن تقوم الثورات بإقناع الدول الإقليمية بدعم
الثورة، ولكن كان من الممكن تخفيف عداوتها وتخذيلها عن الاصطفاف ضدّ الثورة،
وإبراز الجوانب الإيجابية للتغيير (ربما في الإطار الاقتصادي، والنهضوي، والأمن
القومي أو الإقليمي للمنطقة، ومواجهة المخاطر المشتركة)؛ بل وربما في تحذير من
يحاول التدخل في الشؤون الداخلية للثورات من مخاطر وانعكاسات ذلك عليه وعلى البيئة
الإقليمية، سواء اتخذ ذلك شكل تدخل غربي وصهيوني معاد للأمة، أم شكل تراجع اقتصادي؛ أم شكل فتنة طائفية وعرقية.
وبالتأكيد، فالأمر ليس سهلا، وربما كان صعب المنال، ولكنه كان يستحق
المحاولة كأحد أدوات إنجاح الثورة واستمرارها.
كان الجو العام هو الميل إلى طمأنة الأمريكان، الذين حسموا أمرهم، ولو بشكل ناعم، باتجاه دعم القوى المضادة للثورة، أو محاولة إعادة توجيهها باتجاهات تخدمهم، أو تحرفها عن بوصلتها
الثورة محطة تاريخية خاصة واستحقاقات ومهام خاصة
التغيير في المنطقة شرط البقاء والاستمرار