الشك هو حالة ذهنية ونفسية تعني الريبة نتيجة غياب المعرفة اليقينية، ومن ثم التردد بين الاثبات والنفي والميل إلى عدم التصديق.
الشكل يبين أشكال ودرجات التصديق والرفض
واليقين عكسه الرفض، وبينهما تتدرج مستويات متوازية من القناعة العقلية، فيبدأ الإنسان بمعرفة الفكرة ثم فهمها ثم القناعة بها ثم تصديقها والإيمان بها، وصولا إلى مرحلة اليقين. وتوازي كل مرحلة من هذه المراحل مرحلة موازية، بداية من غياب معرفة الفكرة أو معرفتها دون فهم حقيقتها وأبعادها وفلسفتها وكيفيتها ومعطياتها ومآلاتها، ومن ثم الشك فيها ثم الريبة منها، فرفضها.
ويطلق البعض خطأ أن الشك طريق وسرداب مظلم لا نور فيه، وهذا غير حقيقي، لأن الشك الإيجابي يقود إلى المعرفة.
وقد أخطأ ديكارت حين بدأ رحلته بالتشكيك في حقيقة كل شيء، واسس منهجه الشكي في كتابه "المنهج"، والذي أسسه على أفكار الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال"، وصولا إلى الحقائق اليقينية، ولكنه هزم الشك وتخلص منه حين تجاوزه بإدراك الوجود.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يأتي الشيطانُ الإنسان، فيقول: مَن خلق السموات؟ فيقول: الله، فيقول: مَن خلق الأرض؟ فيقول: الله، حتى يقول: مَن خلَق الله؟ فإذا وجد أحدُكم ذلك فليقل: آمنتُ بالله ورسلِه".
هذا نصٌّ نبوي يبين فيه أن التشكيك وارد، فأحداث الواقع واخطاء البشر تؤدي إلى أزمات وصدمات، كما أن الشيطان بحكم طبيعته وعمله يحاول أن يستغل هذه الفرص لينفثُ سمومَه الفكرية؛ ليسقط المرء في حبائل الشك السلبي، ويجعله يعيش في حَيْرة وضياع.
وتستوقفني هنا مقولة دوستويفسكي: "لا، إنني لم أؤمن بالله ولم أعترف به كما يفعل طفل؛ وإنما أنا وصلت إلى هذا الإيمان صاعدا من الشك والإلحاد بمشقة كبيرة وعذاب أليم".
وفي هذا إهمال لأهمية العقل والتفكير، ولكن لنا القدوة في أبي بكر الصديق؛ الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم سرعة تصديقه وإيمان بالله ورسوله، حين قال: "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم عنه (أي ما تباطأ بل سارع) حين دعوته، ولا تردد فيه".
كما أن لنا في سيدنا إبراهيم التجربة والدرس، حين لم يستح أن يسأل ربه ويتيقن.. "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى? ? قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ? قَالَ بَلَى?وَلَ?كِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ? قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ? وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة: 260),
متى يشك الإنسان، والناس كمجتمع وأمة من الناس؟
من سنن التاريخ البشري أن الأسئلة الكبرى والعميقة تأتي مع الأزمات الكبرى. "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران: 165).
حينما يتعرض الناس لصدمة مفاجئة لم تكن متوقعة، أي خارج فضاء تفكيرهم العادي المتاح لهم في هذه اللحظة التاريخية، تنتابهم حالة من الاستغراب والتعجب لما جرى، لينتقل الأمر إلى الشك في ما قاد إلى الصدمة التي حدثت.. الشك في الأشخاص والقيادات، وفي الخطط المستخدمة، وفي المؤسسة والتنظيم، وفي المفاهيم الكبرى وراء الخطط والأشخاص، ليصبح من الطبيعي هنا والواجب التوقف لإجراء عمليات تدقيق وتقويم، وفق معايير علمية ومنطقية وشرعية وإنجاز سابق أو مماثل متحقق، بهدف كشف أوجه الانحراف والخلل.
وبقدر حجم وقوة الصدمة لا بد أن يكون عمق المراجعة والتدقيق، بمعنى أن الصدمة تقود إلى الشك، والشك يقود إلى إنتاج وطرح الأسئلة تمهيدا للإجابة عليها، وفي الإجابة عليها فتح فضاءات معرفية واسعة جديدة لم تكن موجودة ولا متاحة من قبل، حيث إن طرحها من قبل كان سيعد بمثابة طرح أسئلة افتراضية لتحديات غير موجودة.
وهذا بطبيعة الحال للعقل العامي العادي، بينما يتخلف الأمر لدى العقول الكبيرة الاستشرافية التي تبحث في المستقبل، واضعة أسئلته وإجابته وسيناريوهاته المتوقعة.
وعندما لا يكافئ عمق عمليات المراجعة قوة الصدمة، تصبح هذه المراجعة مراجعة ضعيفة وفاسدة. كمان أن من أهم شروط تمام ونجاح المراجعة أن تتم وفق لجان متخصصة وشفافة، بمشاركة خبراء متخصصين من خارج المؤسسة، متحررين من كافة القيود والضغوط المعنوية والمادية، وحينما لا يتم ذلك فهي مراجعة مزورة وفاسدة.
قوة الصدمة ومجالات الشك وعمق الأسئلة
المنطق العلمي يقرر أنه كلما زادت قوة الصدمة كلما زاد عمق الشك والأسئلة والتدقيق والتقويم.
الشكل يبين 9 مجالات ومستويات للشك والمراجعة وطرح أسئلة التدقيق والتقويم تكشف العلاقة بين قوة الصدمة ومستوى الشك وعمق الأسئلة
مجالات الشك وعمق الأسئلة
مع حدوث الصدمة من الطبيعي أن يبدأ الإنسان في الشك وإعادة التفكير في الكثير من الأشياء، بداية من طريقة ومنهج تفكيره، إلى مراجعة النتائج المتحققة مقارنة بالأهداف المعلنة، ثم النظر في سلامة وجودة وملاءمة الوسائل والأدوات، مرورا بالخطط، ثم الوقوف على مدى أهلية وصلاحية القياديات الحالية لاستحقاقات المرحلة، علما بأن لكل مهمة رجلها المناسب، ولكل مرحلة مهامها المتنوعة الخاصة بها، ومن ثم رجالها المناسبون لها.
ثم يمتد الشك النظر في هياكل المؤسسة ومدى توافر شروط ومعايير المؤسسية الحديثة فيها وصلاحيتها لتحقيق هذه الأهداف، ثم يمتد الشك وإعادة التفكير في نظام الأفكار الكبرى، المسيطر والمحرك لعقول الناس، ومدى سلامته وجودته، ليتم النزول إلى العمق الحقيقي للأفكار التأسيسية الصلبة، والنظر فيها بجدية والبحث في سلامتها وجودتها وصلاحيتها يوم وضعت، ثم البحث في أمرين هامين، الأول هو مدى استمرار صلاحيتها الآن، والثاني مدى كفايتها لاحتياجات وحراك الواقع المعاصر الآني.
أدوات التقييم
الشك وإعادة التفكير والتدقيق في العناصر المعنوية والمادية يحتاج إلى أدوات علمية للتحكيم والتدقيق..
أولا: المعيار العقلى والمنطقي
ثانيا: المعيار العلمي المهني التخصصي
ثالثا: المعيار التاريخي
رابعا: المعيار العملي الواقعي
خامسا: المعيار الديني والشرعي
قوة الصدمة والشك وعمق الأسئلة وإنتاج المعرفة الجديدة
كلما كانت الصدمة كبيرة كان الشك حقيقيا، وكانت الأسئلة كبيرة وعميقة ومؤلمة، ومن ثم أصبح العقل مستنفرا ومتحفزا للإجابة، مما يدفعه ذاتيا إلى فتح فضاءات غير مسبوقة للبحث عن الإجابات بها، وعندما يجدها تتحول إلى فرضيات ومعارف جديدة، وهذا ما نسميه النمو المعرفي الإلزامي الممزوج بدماء التجربة والفشل، والذي كان من الممكن حفظه لو تم البحث الاستشرافي فيها مسبقا.
الشكل يبين العلاقة بين قوة الصدمة وجدية الشك وعمق الأسئلة وفتح فضاءات جديدة ونمو معرفي متجدد
وبهذا يمكن أن نخلص إلى أن من أهم فوائد الصدمة؛ أنها تفرض الشك الذي يفرض على الإنسان والمؤسسة تشغيل العقل وإحياء محكمة العقل والمنطق والعلم والشرع، وتجاوز كل قيود وصناديق التفكير والتوقيع والاعتماد والتبعية النمطية التي تحاصر العقل وتجمده وتلغيه وتتجاوزه تماما؛ في ما نعرفه بمجتمع القطيع، بما يجبر الإنسان على الارتقاء الإجباري إلى منزلة الفلاسفة والمفكرين الذين يصنعون الأسئلة ثم يبحثون في الإجابة عليها، لتتجمع وتنتظم وتبوب وتتراكم وتتكامل لديهم الاجابات لتشكل إنتاجا معرفيا جديدا يستخدمونه في تجاوز أزمتهم، والعبور إلى المستقبل.
أنواع الناس مع الصدمات
العديد من العوامل الذهنية والنفسية والمعرفية تشكل في النهاية مزيجا خاصا لدى كل فرد لكيفية تعامله مع الصدمة، هذا بالإضافة إلى القادة وصناع القرار المتسببين في صناعة الأزمات المتتالية والمتراكمة، والتي أوصلت المؤسسة والمجتمع إلى مرحلة الصدمة شديدة الخسائر.
أولا: بالنسبة للقادة وصناع القرار:
1- يحاول التحرر من مسؤوليته أمام الله والناس وعذاب ضميره، فيسارع بالإعلان عن تحمله مسؤولية ما جرى، والمطالبة بالتخلي عن المسؤولية والاستعداد للمحاسبة.
في بعض الثقافات التي لا تؤمن بالله ولكن تقدس قيمة وكرامة الإنسان، كما في اليابان والصين مثلا، يضطر المسؤول إلى الانتحار نتيجة عدم تحمله لضغط تأنيب الضمير جراء ما فعله بمؤسسته وشعبه.
2- يحاول التنصل من المسؤولية وترحيلها لأشخاص آخرين.
3- يحاول المراوغة ويحيل المسؤولية على قوة الخصم وعدم تكافؤ القوة معه.
4- المراوغ الكاذب المخادع الشرير الذي يتمسك بالسلطة، ولا يعترف بالخطأ، ويستخدم الكذب واللف والدوران والمراوغة ولي نصوص ومفاهيم الدين والتلاعب بها لتضليل وتغييب عقول الناس، خاصة الأتباع، في ما نسميه بصناعة القطيع، ومحاربة كل من يحاول كشفه.
ثانيا: بالنسبة لعموم الناس مع الصدمة
1- العاقل المنطقي يبدأ مباشرة في الشك في الوسائل والقرارات والخطط والقيادة والمؤسسة والمنهج والأفكار التأسيسية، ويبدأ رحلة المراجعة والتدقيق والتصويب الشاملة العميقة، وصولا إلى نظام أفكار جديد وخطة جديدة ومنهج ووسائل عمل جديدة.
2- النظرة المحدودة للأزمة والصدمة، ومراجعة وتدقيق بعض الأشياء السطحية دون جرأة وقدرة على الإبحار في أعماق الأزمة والصدمة.
3- الهروب من المشهد.
4- الاستمرار لفترة طويلة في مرحلة تيه طويلة تحت أثر الصدمة.
5- الوقوع تحت تأثير التضليل وتغييب العقول، والوصول إلى مرحلة التخدير طويلة الأمد وعدم الإحساس بالصدمة.