لم يسبق للبريطانيين أن خبروا تأثير كلمة مختزلة مؤلفة من ستة أحرف
قدر التأثير الذي أحدثته كلمة «بريكزيت» BR-EXIT، وهي كلمة مختصرة مركبة تعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
والجزء الأول من الكلمة يشير إلى بريطانيا، أما الجزء الثاني فيعني المغادرة أو
الخروج EXIT.
على
امتداد السنتين الماضيتين - أي منذ انتخابات سنة 2016 - ظلت هذه الكلمة تتحكم في
سياسة حزب المحافظين الحاكم بقيادة تيريزا ماي، وحزب العمال المعارض بزعامة جيرمي
كوربن.
وقد
بلغ الخلاف بين الحزبين حدا كاد يهدد بتمزيق خيوط الوحدة الوطنية. لذلك اضطرت
الملكة اليزابيث الثانية للتدخل العلني عبر خطاب متلفز رسمت من خلاله الخطوط الحمر
لهذا النزاع السياسي الطويل.
ويُستدَل
من العبارة المركزية التي استخدمتها الملكة أنها حريصة على احترام الرأي الآخر،
وعدم إقحام الخصوصيات في شؤون الدولة وشجونها.
ولكن
الخلاف العميق بين الحزبين لم تبدده كلمة النصح والإرشاد التي أعلنتها الملكة،
علما أنها لا تتدخل في أمور الحكم إلا في حالات استثنائية. وربما رأت في الانهيار
البطيء الذي تعانيه المملكة المتحدة بسبب الخلافات السياسية مدخلا للتدخل والتحذير
من عواقب التناحر المتواصل.
والملاحظ
منذ سنة تقريبا أن كوربن ركّز استراتيجيته الهجومية ضد ماي على التذكير بعدد
العاطلين عن العمل، من أولئك الذين فقدوا وظائفهم جراء إقفال سلسلة شركات عالمية
ونقل مصانعها ومكاتبها إلى ألمانيا أو فرنسا أو بلجيكا.
وكانت
شركة «نيسان» اليابانية، التي تحاكم رئيس مجلس إدارتها السابق كارلوس غصن، أول
مصنع تصنيع وتوزيع يقفل أبوابه ويتخلى عن 6.700 موظف وعامل وخبير.
ويتذكر
البريطانيون الأخبار السارة التي أعلنها رئيس الحكومة توني بلير، عندما قدم كارلوس
غصن على شاشات التلفزيون كمنقذ يسهم في عملية النهوض والتوظيف في المملكة المتحدة.
وعندما
حذّرت شركة يابانية أخرى من عواقب نقل مصنعها سنة 2022، في حال انسحبت بريطانيا من
الاتحاد الأوروبي، لم تتحرك تيريزا ماي لإبلاغها عن موقفها النهائي من هذا الأمر،
وقد أعقب هذا التحذير لوائح الاعتراض على أداء الحكومة لأن شركة هوندا اليابانية
مضطرة إلى صرف 3.500 موظف وعامل.
وأمام
هذا المأزق، حذر سفير اليابان في لندن من النتائج السلبية التي يتوقعها للوضع
الاقتصادي في بريطانيا. ثم أعلن في الوقت ذاته أن بلاده وقعت اتفاقا تجاريا مع
الاتحاد الأوروبي يعتبر الأضخم خلال الـ20 سنة الماضية. كل هذا بسبب عدم الاستقرار
الذي خلقته رئيسة الحكومة تيريزا ماي وخروجها من اجتماعات بروكسيل بخفّي حنين!
كذلك
تأثرت بعوامل الجمود والفوضى شركات عدة أخرى من بينها: فورد، جاغوار - لاند روفر،
تويوتا، وبي إم دبليو. وقد اضطرت شركة فورد إلى صرف ألف عامل وموظف كجزء من خطة
عصر النفقات وخفضها في أوروبا. وأمام هذا المأزق المتنامي، قامت شركة جاغوار -
لاند روفر بصرف 4.500 موظف من مصنعها ومكاتبها. وهذا ما فعلته شركة هوندا التي
صرفت 3.500 ميكانيكي وعامل.
ولم
يقتصر تأثير هذه الأزمة الخانقة على صناعة السيارات في بريطانيا، وإنما تعداها
ليمسّ قطاع المسافرين بالطائرات. وبسبب هذا التأثير أعلنت شركة «ريان-أر» عن حلّ
نفسها وإغلاق مكاتبها وصرف موظفيها. وكان من الطبيعي أن يعرب 260 ألف عامل في قطاع
الطيران عن مخاوفهم من المستقبل المجهول.
ولكن
كيف وصلت بريطانيا إلى هذا المأزق المعقد؟
يُجمع
المراقبون على القول أن صانع هذا المأزق هو رئيس حكومة المحافظين السابق ديفيد
كاميرون، الذي أورث تيريزا ماي مصاعب معالجة الأزمة التي افتعلها من دون مبرر. ذلك
أنه كان مقتنعا بأن نتائج الاستفتاء ستؤمن له الغطاء الشرعي للبقاء في الاتحاد
الأوروبي ولو دفعت بريطانيا سنويا 40 بليون جنيه. ولكن حساب الحقل جاء مخالفا
لحساب البيدر. أي أن نتيجة الاستفتاء جاءت لصالح المطالبين بالانسحاب من الاتحاد.
وقد
تُرجِمت الإرادة الشعبية إلى ممانعة قوية لأسباب عدة أهمها:
أولا:
طغيان العمال الغرباء، وخصوصا البولنديين والرومان، الذين سرقوا فرص العمل من طريق
أبناء البلد.
ثانيا:
استفادة أكثر من مليوني غريب من الطبابة المجانية التي يحصلون عليها بسبب القانون
الذي يمنحهم هذا الحق.
ثالثا:
الشعور الوطني المتوارث لدى البريطانيين بأن استقلال الجزيرة عن أوروبا أفضل بكثير
من فقدان خصوصياتهم، لهذا كان اعتراضهم على حفر قناة التحام مع فرنسا أثناء حكم
مارغريت ثاتشر وفرانسوا ميتران.
الأسبوع
الماضي فوجئ زعيم حزب العمال بانسحاب تسعة نواب من المجموعة التي تشكل نواة الحزب
في البرلمان، وقد وصلت عدوى هذا التمرد خلال اليوم الثاني إلى حزب المحافظين الذي
انسحب منه ثلاثة نواب، ولما علم كوربن بأن ظاهرة الانفصال عن حزب العمال ستزداد
أعدادها قرر إحداث صدمة سياسية بإعلان موافقته على إجراء استفتاء ثان حول موضوع
«بريكزيت»، ولكن الانسحابات التي تمت الأسبوع الماضي من حزب العمال أخذت بعدا
سياسيا مختلفا، كونها نشأت من حركة يهود حزب العمال التي طالبت بضرورة استقالة
2.500 عضو من الحزب، وهذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الانكفاءات بعد
انقضاء قرن كامل على مشاركة يهود بريطانيا في تأسيس حزب العمال، ومن أجل بحث هذا
الموضوع قررت الحركة اليهودية إجراء اجتماع طارئ يعقد يوم السابع من نيسان (أبريل)
المقبل، ويتوقع المراقبون أن يتخذ المجتمعون قرارا يقضي بفصل جيرمي كوربن عن زعامة
الحزب!
وبدلا
من الإفادة من فوضى التردد التي أصابت زعيمة حزب المحافظين، فوجئ كوربن بحملة
إعلامية واسعة تتهمه باللاساميّة.
ويتردد
في الأندية السياسية اللندنية أن الاحتفال الذي أقامه «حزب العمال» قبل شهرين
تقريبا كان المشجع على اتهام زعيم الحزب باللاساميّة، والسبب أن أحد الخطباء أثار
موضوع النكبة الفلسطينية سنة 1948، وراح يقارن بين حياة طفلين (فلسطيني وإسرائيلي)
وكيف أن الدولة المحتلة تميّز في تعاملها معهما.
وبعد
أن استرسل الخطيب البريطاني العمالي في وصف الوضع الفلسطيني المزري، أنهى كلمته
بوعد ألا تتكرر تلك المأساة في حال وصل الحزب إلى الحكم، ويبدو أن كوربن كان حريصا
على الظهور أمام الكاميرات وهو يصفق بحرارة علامة الموافقة والتشجيع.
يرى
المراقبون في هذه الواقعة صورة البلبلة والتمزق التي يعاني منها حزب العمال
البريطاني، فهو من جهة يشجب اللاساميّة، وهو من جهة أخرى يدافع عن القضية
الفلسطينية والقضايا العادلة المماثلة، وقد صدر قبل أسبوعين كتاب يلصق بكوربن كل
المساوئ والاعوجاجات التي ارتكبها هذا الرجل منذ تولى الزعامة، وقد استفاد من نصوص
هذا الكتاب أثرياء حزب المحافظين ممن يرون في جيرمي كوربن كارل ماركس آخر يهدد
مستقبل الأثرياء في المملكة المتحدة!
كتبت
مجلة «تايم» الأميركية عن معركة كوربن (69 سنة) داخل حزب العمال، تقول: إن القمصان
التي يرتديها شبان الحزب تعكس إلى حد بعيد إعجاب الجيل الجديد بشخصيته. وحدث أثناء
المظاهرة الأخيرة في لندن أن ظهرت شعارات مختلفة على القمصان أهمها: «يعيش تشي
غيفارا البريطاني..»، وأخرى تقول: «أحب كوربن.. وأكره بريكزيت».
وبين
كارل ماركس وتشي غيفارا وما يعنيه الدعم المتواصل للفلسطينيين، يتطلع جيرمي كوربن
إلى معركة سنة 2022، وما قد تحمله له من مفاجآت غير سارة!
عن
صحيفة الحياة اللندنية