عن يوم المرأة العالمي والسوداني

تحتفل معظم دول العالم بيوم المرأة في الثامن من آذار (مارس) من كل عام، بتجديد الدعوات لإنصاف النساء بمنحهن نفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال، وفي مثل ذلك اليوم تتعالى أصوات هنا وهناك في الدول العربية مستنكرة الاحتفاء به، بزعم أن فيه مجاراة للغرب الكافر.
 
ولكن بلا بأس في أن نجاري الغرب الكافر في الاحتفال بيوم الطفل، ويوم المرور ويوم الإيدز، وأن نشارك في اليونسكو والفيفا وصفقة القرن، التي يروج لها وحيد القرن دونالد ترمب، والتي تقضي بأن القدس مدينة يهودية، ولإسرائيل الخيار في "ترك" المسجد الأقصى كمعلم تاريخي (كان وحيد القرن الأبيض شعار جمهورية السودان بعد الاستقلال، وتم استبدال صقر منتوف الريش به، بعد أن تعالت الاحتجاجات لكون وحيد القرن حيوانا شديد الغباء).

أصل الحكاية

وحقيقة الأمر هي أن يوم المرأة العالمي لا علاقة له بالكفر أو الإيمان، بل إن الولايات المتحدة والدول الرأسمالية ظلت رافضة تخصيص يوم لعرض مظالم النساء وطرح مطالبهن، لأن الحزب الاشتراكي الأمريكي هو أول من احتفى بذلك اليوم في شباط (فبراير) من عام 1909، ثم توافقت روابط النساء الاشتراكيات في أوروبا على ضرورة تخصيص يوم تطالب فيه نساء جميع الشعوب بالمساواة مع الرجال في الأجور وفرص العمل، وبمنحهن حق الترشح والتصويت في الانتخابات.

وفي الثامن من شباط (فبراير) من عام 1917 خرجت آلاف النساء من مصانع بتروغراد (صار اسمها ليننغراد بعد انتصار الثورة البلشفية تخليدا لذكرى مؤسس الاتحاد السوفييتي فلادمير إيليتش لينين، ثم بتروغراد اليوم)، للمطالبة بالخبز والسلام ووقف الحرب (العالمية الأولى)، وكانت تلك التظاهرة النسائية هي الشرارة التي أشعلت الثورة الروسية ضد الحكم القيصري، ثم مهدت للثورة الاشتراكية التي نتجت عنها الدولة السوفييتية.

 

توافقت روابط النساء الاشتراكيات في أوروبا على ضرورة تخصيص يوم تطالب فيه نساء جميع الشعوب بالمساواة مع الرجال في الأجور وفرص العمل، وبمنحهن حق الترشح والتصويت في الانتخابات.

ولم تقل بقية دول العالم: لماذا نكون إمعات، ونجاري نساء روسيا بتخصيص يوم 8 آذار (مارس) للمرأة، بل اعتبروا الدور الذي لعبته نساء بتروغراد في التخلص من القيصرية مكسبا لنساء العالم، وفي عام 1977 اعتمدت الأمم المتحدة ذلك التاريخ ليكون يوما لحقوق النساء والسلام العالمي، وحدث نفس الشيء بالنسبة لعيد العمال في أول أيار (مايو)، تذكيرا بنضالات عمال شيكاغو الذين أضربوا عن العمل في مثل ذلك اليوم من عام 1886، فكان أن فتحت الشرطة النار عليهم وقتلت عددا منهم، والتقطت القضية الأحزاب الماركسية في جميع أنحاء العالم، وشيئا فشيئا صار الأول من أيار مايو "عيدا" لعمال العالم يستذكرون فيه حقوقهم ويعلنون فيه عن تضامنهم مع بعضهم البعض.

أول امرأة مسلمة

فاطمة أحمد إبراهيم أول امرأة مسلمة/ عربية تفوز بمقعد في البرلمان (1965) بعرق جبينها، أي بالانتخاب الحر، والسودانية إحسان فخري هي أول امرأة عربية مسلمة تتولى القضاء، وكانت قبلها رئيسة تحرير المجلة التي تعنى بتسجيل السوابق والأحكام القضائية ذات القيمة المرجعية، وفي عام 1952 أصبحت خالدة زاهر رابع امرأة تمتهن الطب في الشرق الأوسط.

 

حكومة المشير البشير، ظلت منذ يومها الأول طالبانية في نظرتها للمرأة، وبراغماتية في نظرتها لمقتضيات استمرارها في السلطة،

وفي بلد أنجب نساء كهؤلاء، جاءت حكومة السودان الحالية وليدة انقلاب عسكري في حزيران (يونيو) 1989، وأعلنت أنها بصدد تطبيق مشروع حضاري إسلامي، ولاكتساب شرعية ولو شكلية، أنشأت برلمانات زجت فيها بمئات البصمجية الذين اقتصرت معرفتهم بتعاليم الإسلام على أمور الحيض والنفاس، فتباروا لتحليل زواج القاصرات، وتشجيع ختان البنات، وطرحوا تعدد الزوجات كوسيلة لمحاربة العنوسة، وتباهوا بإقامة المهرجانات والكرنفالات الضخمة لتزويج الشباب بالجملة، وكأنما سبب عزوف الشباب عن الزواج، هو عدم القدرة على توفير نفقات ولائم الزفاف، وليس أن الزواج يعني تأسيس عائلة، وأن العائلة ينبغي أن تأكل وتشرب وتتعلم وتسكن وتتعالج من الأمراض.

 

قانون سوداني شائه

وأصدرت الحكومة قانونا شائها يحمل اسم النظام العام، وأسست جهاز شرطة لتطبيق ذلك النظام، وتخصص هذا الفصيل الشرطي في ملاحقة النساء وإذلالهن في الأماكن العامة بالضرب والاعتقال؛ وكانت أكثر البنات استهدافا هن طالبات جامعة الأحفاد المخصصة للبنات فقط، فقد ظل جماعة النظام العام ينصبون الكمائن للحافلات التي تنقلهن من وإلى الجامعة، لسحبهن إلى المخافر والمحاكم بتهمة ارتداء أزياء فاضحة.

ثم وفي أعقاب المظاهرات التي ظل السودان يشهدها طوال السبعين يوما الماضية، قال الرئيس البشير: إن قانون النظام العام يتعارض مع الشريعة، وكان ذلك تعزيزا لكلام مدير المخابرات السوداني الذي عزا ثورة الشباب على الحكومة للحرمان من تعاطي الشيشة والتسكع في شارع النيل.

وحكومة المشير البشير، ظلت منذ يومها الأول طالبانية في نظرتها للمرأة، وبراغماتية في نظرتها لمقتضيات استمرارها في السلطة، وبينما كانت تجلد البنات في الشوارع بتهمة ارتداء الأزياء الفاضحة، ظلت تبرر مخالفتها لتعاليم الشريعة كقبول القروض الربوية بـ "فقه الضرورة"، وعندما تم ضبط كبار رموزها بجرم سرقات مليارية، ابتدعت لهم مخرج فقه التحلُّل (ادفع اللي فيها النصيب، و.... براءة)، وعندما غاص بعضهم في مستنقعات الفضائح ذوات الروائح التي تزكم الأنوف بررت عدم مساءلتهم بفقه "السترة".

منذ منتصف كانون أول (ديسمبر) الماضي، صار يوم الخميس هو اليوم المخصص للمظاهرات الكبرى المطالبة برحيل حكومة عمر البشير، ولكن مظاهرات يوم الخميس الماضي (7 آذار/ مارس)، كانت مخصصة للاحتفاء بنضال المرأة السودانية، خاصة أن السبعين يوما الماضية شهدت تنكيلا بشعا بالنساء اللواتي خرجن في المواكب التي تطالب بإسقاط الحكومة الحالية، فقد كان واضحا أن القوات المخصصة لفض المظاهرات تمارس إدارة التوحش لترويع النساء، بعد أن لاحظت وسائل الإعلام العربية والأمريكية والأوروبية أن الانتفاضة السودانية الحالية تشهد ظاهرة لم يسبق رصدها في أي مكان في العالم في ظروف مشابهة: أن تشكل النساء نصف عدد المتظاهرين، وأن تعلو أصواتهن في معظم الأحوال على أصوات الرجال.

والشاهد: نظام عمر البشير يحصد اليوم ثمار تنكيله المستمر بالنساء، لأنه، وكسلطة أدمنت التسلط الذكوري، تحس بأنها تتعرض لمسح الملح على جراحها لأن "الحريم" صرن صاحبات الصوت الأعلى في الشوارع الرافضة له، ويسوؤها أن معارضيها قرروا تكريم المرأة السودانية في تزامن مع اليوم العالمي للمرأة.