قليلة هي إنجازات مرحلة ما بعد انتفاضة 17 كانون الأول/ ديسمبر- 14 كانون الثاني/ يناير في تونس، لكنها عميقة، وأهمها الحريات والانتخابات بلا شك، أيضا العدالة الانتقالية.
فقد نشرت هذا الأسبوع "هيئة الحقيقة والكرامة" تقريرها الختامي الشامل في عدة أجزاء، وبهذا المعنى هي تنشر أول تاريخ رسمي بديل للتاريخ الرسمي الذي ساد لعقود، وهي أيضا تقدم مساهمتها، من زاويتها المؤسساتية وبأدواتها المخصوصة، في مسار مراجعة التاريخ المعاصر لتونس، والذي بدأه مؤرخون عديدون منذ سنوات، حتى قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011.
تكريما لهذا العمل الاستثنائي، أقدم هنا ملخصا لأهم ما جاء في الأجزاء الأولى المتعلقة بسير عمل الهيئة وانتهاكات حقوق الإنسان، وسأخصص مقالا آخر للجزء المتعلق بالفساد وسرقة المال العام.
هي تنشر أول تاريخ رسمي بديل للتاريخ الرسمي الذي ساد لعقود، وهي أيضا تقدم مساهمتها، من زاويتها المؤسساتية وبأدواتها المخصوصة، في مسار مراجعة التاريخ المعاصر لتونس، والذي بدأه مؤرخون عديدون منذ سنوات
تضمن
التقرير الختامي أجزاء؛ هي كالتالي:
1- عهدة الهيئة: وتضمن أساسا العراقيل التي واجهت هيئة الحقيقة والكرامة من قبل السلطة التنفيذية خاصة، بدءا من 2015، زمن صعود حزب المنظومة القديمة في الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية والرئاسية.
2- تفكيك
منظومة الاستبداد: وتضمن جزأين؛ الأول يركز على
الانتهاكات الموجهة للنساء والأطفال، والثاني يتضمن الانتهاكات لعامة لحقوق الإنسان منذ دولة الاستقلال حتى السنوات الأخيرة.
3- تفكيك منظومة الفساد، أو الفساد المالي والاعتداء على المال العام: يتحدث عن شبكة الفساد وتأثيرها في مجمل القطاعات.
4- ضمانات عدم التكرار: ويتضمن توصيات حول حفظ الذاكرة، وآليات التحكيم والمصالحة، وإرث الهيئة.
إذا عدنا إلى كل جزء على حدة، فيجب أن نبدأ بالجزء الأول الذي يكشف في أحيان كثيرة عن تفاصيل مجهولة حول رفض جزء مهم من السلطة التنفيذية التعاون مع هيئة الحقيقة والكرامة، بل تعطيل أعمالها في أحيان كثيرة، علاوة على قيام رئاسة الجمهورية بتقديم مبادرة تشريعية لقائد السبسي من أجل قطع الطريق على العدالة الانتقالية برمتها.
رفض جزء مهم من السلطة التنفيذية التعاون مع هيئة الحقيقة والكرامة، بل تعطيل أعمالها في أحيان كثيرة
وهناك تفاصيل أخرى وعرقلة في أطر صغيرة كشفت عنها الهيئة. من ذلك، رفض وزارة الداخلية تمكين الهيئة من أرشيف البوليس السياسي: "لقد رفضت وزارة الداخلية فتح هذه الأرشيفات وتمكين الهيئة من النفاذ إليها، بالرغم من المراسلات المتعددة التي أرسلتها الهيئة في هذا الصدد، وحددت أرصدة البوليس السياسي المتكونة من أرصدة الإدارة العامة للمصالح المختصة والإدارة العامة للمصالح الفنية والإدارة المركزية للإرشاد ومصالح أمن الدولة". (ص 133).
أيضا رفض القضاء العسكري التعاون: "رفضت المحاكم العسكرية الدائمة بالكاف وصفاقس وتونس ومحكمة الاستئناف العسكرية بتونس؛ طلب الهيئة للنفاذ إلى الملفات القضائية المنشورة لديها، والمتعلقة خاصة بأحداث
الثورة، رغم توجيهها عدة مراسلات". (نفس الصفحة).
أيضا، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وزير العدل آنذاك (غازي الجريبي) اشترط لمنح قاعة للجلسة الافتتاحية للعدالة الانتقالية؛ بأن تكون كلمة رئيسة الهيئة "معتدلة".
أيضا، امتناع رئاسة الحكومة عن نشر قرارات وإعلانات الهيئة في الرائد الرسمي، و"التعامل السلبي" من قبل المكلف العام لنزاعات الدولة خاصة في ملفات حقوق الانسان، و"التعامل السلبي" من قبل مجلس نواب الشعب؛ بالامتناع عن سد الشغور في هيئة الحقيقة والكرامة بعد بعض الاستقالات فيها. وقد قاطع رؤساء السلطات الثلاث (الرئاسة والحكومة ومجلس النواب) جلسات الاستماع. وكان الرئيس
السبسي قد استقبل رئيسة الهيئة بشكل سري تقريبا، عندما أرادت تقديم التقرير الختامي.
الجزء الثاني المتعلق بالانتهاكات في حقوق الانسان؛ يتضمن تجميعا مؤلما لشهادات الضحايا وقصص مرعبة عن منظومة
الاستبداد. تم التركيز بداية على الانتهاكات ضد النساء: "تم الاستماع إلى 9638 امرأة، أي بنسبة 95 في المئة من مجموع الملفات المودعة، حيث تم تسجيل تعرضهن إلى 76171 انتهاكا من مجموع الانتهاكات، كما تم التحري في 2955 ملفا بخصوص انتهاك حرية اللباس والمعتقد، أي بنسبة 23 في المئة من مجموع الملفات المودعة، واحالتها الهيئة للدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية" (ص 4). ولعل أفظع الحالات هي تلك المتعلقة بالتحرش الجنسي أمام العائلة أو الزوج الموقوف، وفرض الطلاق القسري على الأزواج وتشريد الأبناء.
ولعل أكثر الأقسام إيلاما؛ تلك المتعلقة بالانتهاكات ضد الأطفال القصّر، والتي تلقت في خصوصها الهيئة حوالي مئتي ملف، خصوصا في ما يتعلق بـ28 حالة اغتصاب، وهي تتعلق أساسا بأطفال من الذكور. وجاء في إحدى الشهادات: "صرح الضحية بأنه تعرض لعدة انتهاكات جسيمة، حيث تم إيقافه في عدة مناسبات، بدايتها كانت سنة 1987 بوزارة الداخلية، تعرض خلالها (المعتقل) للتعذيب وتجريده من ملابسه تماما (..) وإدخال عصا في دبره". ويتقول الشهادة: "عمدوا إلى ضربي على مؤخرتي وإدخال عصا بلاستيكية في دبري، ونعتي بأبشع النعوت" (ص 54).
الجزء الآخر يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان منذ الحكم الذاتي في 1955 وتفجر الصراع البورقيبي اليوسفي، إلى ما بعد الثورة، مرورا بالانتهاكات ضد أجيال التنظيمات السياسية المضطهدة، من يسار وقوميين وإسلاميين، ثم مرورا بالخميس الأسود سنة 1978 والانتهاكات ضد النقابيين، وبعد ذلك "شهداء الخبز" سنة 1984، وطبعا شهداء الثورة وقتل المتظاهرين في الحوض المنجمي في ولاية قفصة سنة 2008.
لأن العدالة الانتقالية معنية بالعودة لجذور إرساء منظومة الاستبداد، يوجد ملف تصفية اليوسفيين منذ كانون الأول/ ديسمبر 1955
في البدايات، ولأن العدالة الانتقالية معنية بالعودة لجذور إرساء منظومة الاستبداد، يوجد ملف تصفية اليوسفيين منذ كانون الأول/ ديسمبر 1955، والذي تم بأشكال مختلفة، بشكل غير نظامي أو إثر محاكمات صورية: "أصدرت محكمة القضاء العليا 28 حكما بالإعدام، نفذت أغلبها، و122 حكما بالأشغال الشاقة تراوحت بين 10 و5 سنوات، وحكم على زعيم المعارضة صالح بن يوسف غيابيّا بالإعدام مرتين، في كانون الثاني/ يناير 1957 وفي كانون الأول/ ديسمبر 1958، ليقع اغتياله سنة 1961" (ص 46).
محطة أخرى مثيرة للانتباه تخص فترة تولي الرئيس الحالي قائد السبسي منصب وزير الداخلية، منذ كانون الثاني/ يناير 1963، والتي تزامنت مع محاكمة المجموعة التي قامت بمحاولة انقلاب عسكري آخر 1962 بقيادة المقاوم السابق لزهر الشرايطي. المثير للانتباه هو التعذيب الشديد الذي مورس عند إشراف السبسي على الوزارة، خاصة في سجن غار الملح. أيضا دور محامي الدفاع، ومنهم شقيق قائد السبسي نفسه، الذين طالبوا بفرض عقوبة الإعدام على موكليهم.
ولعل موقف الرئيس السبسي المعادي للعدالة الانتقالية؛ يجد تفسيره
تحديدا في مسؤوليته الشخصية على إرساء منظومة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان في ستينيات القرن الماضي. وبالمناسبة، سيكون السبسي رئيس القمة العربية هذا الأسبوع. والواقع، أن تاريخه ليس مختلفا عن العديد من الزعماء العرب، لكن خصلته الوحيدة مقارنة بجمع الزعماء هذا؛ أنه ابن سياق تونسي أعاده من النسيان بصناديق الاقتراع؛ هو الرئيس المنتخب ديمقراطيا الوحيد في الواقع العربي الراهن. والعدالة الانتقالية تجربة كان يجب أن يفخر بها أيضا أمام زعماء امتهنوا التعذيب وقمع شعوبهم، ولا يعرفون للحقيقة والاعتذار طريقا.