درس مهم من ثورات الربيع العربي قبل ثمانية أعوام يجب أن يفهمه السودانيون: التغيير لا يتحقق بإزاحة رأس الدولة؛ فهذا الرأس ليس المصدر الوحيد أو الأهم للقرار. وهنا يجدر التمييز بين مصطلحات ذات أهمية: الدولة والحكومة، الإدارة والدولة العميقة، التغيير الجذري والتجميل، الشعب والعسكر.
فلكل من هذه الهويات خصائصها ودورها، وما لم يكن ذلك واضحا فستتواصل الأزمات والمشاكل كما هو الحال عليه في أغلب بلدان الثورات العربية التي حدثت قبل ثمانية أعوام؛ خصوصا أن الجنرال الأخير محسوب على دولة الإمارات، عدوة الثورات والتغيير، وهو الذي كان مسؤولا عن قرار مشاركة السودان في العدوان على اليمن، تلك المشاركة التي أدت لقتل المئات من الجنود السودانيين. في البداية يجب الاعتراف بشجاعة الشعب السوداني واستبساله في المطالبة بحقوقه والتمرد على محاولات تهميشه واستعباده واستضعافه. فبرغم سقوط الضحايا منذ الأيام الأولى من انطلاق ثورته، استمر في الحضور الميداني برغم التهديدات وفرض أحكام الطوارئ ونزول الجيش.
والغريب في الأمر، تأخر الثورة ضد حاكم عسكري انقلب على حكومة منتخبة ديمقراطيا، وأصر على البقاء في منصب الرئاسة ثلاثين عاما متواصلة. فهل عقمت السودان عن إنجاب بديل لعمر البشير؟ كما يجدر الاعتراف بأن الثورة برغم تأخرها جاءت مفاجئة للكثيرين الذين اعتقدوا أن السودانيين راضون بواقعهم وحكمهم. فلماذا لم يثوروا حينما قسمت بلادهم قبل تسعة أعوام؟ لماذا لم يتحركوا عندما ضرب إقليم دارفور وحرقت قراه وقتل الآلاف من ابنائه؟ لماذا سكت السودانيون وهم يشيعون قتلاهم في حرب اليمن؟ فما علاقة السودان بتلك الحرب التي شنها التحالف السعودي ـ الإماراتي على بلد عربي مسلم مجاور؟ هذه التساؤلات لا تقلل من شأن النهضة السودانية التي أطاحت برئيس غير منتخب اختلف مع كل من حوله: مع الجنوبيين والمسلمين الدارفوريين والإخوانيين العرب المسلمين بقيادة المرحوم الدكتور حسن الترابي. وقد حدثت في العامين الماضيين انشقاقات داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم، الأمر الذي أضعف قبضة البشير على الأمور، وكشفه أمام مناوئيه، ومهد للثورة ضده بعد أن تقلص أعداد داعميه من التيار الإسلامي الذي ينتمي إليه تاريخيا.
حتى الآن تبدو الأمور متجهة بشكل صحيح: شعب مضطهد ومستضعف استيقظ فجأة على أنات جياعه ومظلوميه فثار من أجل التغيير. يستحق هذا الشعب التقدير والاحترام والدعم. وزاد من أهمية حراكه أنه تزامن مع حراك في بلد عربي أفريقي هو الجزائر الذي أطاح برئيسه، وجاء الحراكان ليعضدا مقولة حيوية الشعوب العربية المضطهدة، وليعيدا الأمل للشعوب التي قمعت بوحشية قاسية قبل ثمانية أعوام. فما شهدته دول الثورات ربما دفع الكثيرين لإبداء التحفظ على أية محاولة للتغيير السياسي في عالم عرف حكامه بالتوحش والاستعانة بالأجنبي، وعدم التردد في ممارسة أقسى درجات القمع والاضطهاد، واستخدام أبشع الأسلحة، بما في ذلك تمزيق الوحدة الوطنية بشتى الأساليب. تحرك السودانيون وأصروا على البقاء في الميادين حتى عندما تصاعدت أعداد ضحاياهم، التي بلغت في الشهرين الأولين أكثر من سبعين قتيلا ومئات الجرحى. وواصل ثورته في الأيام الأخيرة حتى بعد سقوط أكثر من 70 شهيدا في غضون يومين فقط. الأمر المؤكد أن الدم عامل تحريك مهم لأية ثورة، فكلما سقط الشهداء تحولت دماؤهم لطوفان ثوري هادر، يجعل قمع الثورة أمرا مستعصيا على الحكام القساة. بعد أن استعصى على العسكر قمع الثورة في بداياتها، توسعت كثيرا حتى شملت مدنا عديدة وأصبح قمعها مستحيلا.
وتفاقم الوضع بعد أن قرر المحتجون محاصرة وزارة الدفاع للضغط على العسكريين للتخلي عن البشير. وبلغت الأمور ذروتها في الأيام القليلة الماضية، خصوصا بعد أن انحاز عدد من الجنود والضباط إلى جانب الثوار، الأمر الذي أشعر العسكريين بخطر تصدع جبهتهم أمام ثورة شبابية مصرة على التغيير. وهنا اتخذ قرار إزاحة البشير من منصبه، وأعلن وزير الدفاع عوض محمد أحمد بن عوف عن تشكيل مجلس عسكري لإدارة شؤون الدولة، لفترة انتقالية مدتها عامان تتبعها انتخابات رئاسية. هذا المجلس العسكري ترأسه ابن عوف نفسه يوما واحدا فقط، ثم استقال ليستلم رئاسته الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن.
الأمر الواضح، أن أعضاء الطاقم العسكري، ربما كان البشير من ضمنهم، أجروا عمليات حسابية بسيطة واستنتجوا ضرورة تقديم بعض التنازلات للثوار لدرء خطر السقوط الكامل للمؤسسة العسكرية. ولذلك ازداد الوضع تعقيدا أمام المحتجين وقياداتهم، وفي مقدمتها تجمع المهنيين السودانيين، المنظم الرئيسي للاحتجاجات، بعد الإعلان عن إزاحة البشير وعوض عن الحكم. هنا أصبحت المبادرة بأيدي العسكريين الذين يعتقدون أن بإمكانهم إحداث تصدع في أوساط المحتجين، بتقديم بعض التنازلات الشكلية. فالبشير ليس هو كل شيء، بل إنه طرف واحد في المؤسسة العسكرية التي تحكم السودان، وما لم يحدث توافق بين رموزها على القبول بتحول ديمقراطي حقيقي، فمن المحتمل توسع دائرة الاحتجاجات. وهذا أيضا مرهون بمدى وعي قادة الاحتجاجات واستقلالهم وتماسك صفوفهم، ومدى إيمانهم بمبدأ الثورة لتغيير الحاكم. هذه الاعتبارات تجعل من الصعب التنبؤ بما سيؤول إليه أمر السودان في الأسابيع المقبلة. المحتجون يطالبون بتغيير سياسي جوهري ويرفضون حصر ذلك بتغيير شخص الرئيس، بينما يشعر العسكريون أن أية تنازلات حقيقية، ستؤدي لتهميش دور الجيش في الحياة السياسية للبلاد؛ ولذلك هناك دعوات لاستمرار الاحتجاجات وعدم توقفها، خصوصا أن فترة العامين التي وعد المجلس العسكري الشعب بأنها ستسبق التحول المدني، تكفي لكسر شوكة الحراك وإنهائه. فالقبول ببقاء المجلس العسكري حاكما للبلاد برئاسة عبد الفتاح البرهان أو غيره، يعني غياب الوعي بطبيعة العسكر وتهميش مطالب الثورة المتمثلة أساسا بتسليم السلطة للشعب، وإعادة العسكر إلى الثكنات. والواضح أن هناك استنساخا للتجارب التي يعتقد بنجاحها (من وجهة القائمين عليها). فقد كانت إزاحة الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، عن منصب الرئاسة كافيا لإخماد الثورة، وسرعان ما عاد أركان حكم بن علي إلى السلطة، حتى أصبح الوضع اليوم نسخة مما كان عليه قبل الثورة مع اختلاف واحد: السماح بقدر من حرية التعبير فحسب. كما كانت إزاحة حسني مبارك من الرئاسة المصرية عاملا أساسيا في إخماد الثورة وتحييد عناصرها الفاعلة.
هل التاريخ يعيد نفسه؟ وهل السودان قادر على إعادة تدوير التاريخ بالنمط السياسي الذي تمارسه قيادته العسكرية؟ قادة الحراك السوداني أصبحوا أمام مفترق طرق خطير، فإما تحدي قرارات المؤسسة العسكرية وحرمانها من بسط النفوذ والاتكاء على شرعية السلاح فحسب، أو التصدي لها بالأساليب الثورية السلمية، التي تبدأ بإعلان صريح عن استمرار الثورة دون تراجع حتى تحقيق مطالب الشعب، المتمثلة أساسا في التحول الديمقراطي الحقيقي. من المؤكد أن العسكريين لن يوافقوا على ذلك، ولكن صمود الجماهير في الميادين سوف يضطر المؤسسة العسكرية لإعادة نظرها في الأوامر التي تصدرها، ولن تقوى على مواجهة الشعب إذا تشبث بمطالبه وأصر على وجوده الميداني دون تردد أو خوف. أما انسحابه الآن وانصياعه لأوامر المجلس العسكري، فسوف يضيع فرصة الانتصار النهائي للثورة، وسيبقى العسكر في الصدارة السياسية. فكأن نظام البشير استمر مع تغيير طفيف في وجوهه العامة. فهل هذا ما تحركت الجماهير من أجله؟ لذلك؛ فإن إصرار قيادة الاحتجاج على استمرار الاحتجاج بقولها: «الانصياع لقرار حظر التجوال هو اعتراف بحكومة الإنقاذ المستنسخة.. خليك مكانك واحرس ثورتك»، موقف سليم جاء في وقته. فسقوط البشير وحده لا يمثل انتصارا كبيرا للثورة إذا بقيت مقاليد الأمور بأيدي العسكر. وتجربة الجزائر ماثلة للعيان؛ فبعد أكثر من شهرين على انطلاق الحراك في 22 شباط/فبراير، انحصر التغيير حتى الآن بتنازل عبد العزيز بوتفليقة عن الرئاسة وتعيين عبد القادر بن صالح رئيسا بديلا، بعد أن كان رئيسا للبرلمان. لقد استوعب العسكريون معنى الثورة الشعبية وأدركوا استحالة مواجهتها بالقوة، فتظاهروا بالاستجابة لبعض مطالبها من أجل الحفاظ على النظام السياسي الذي يمثل الجنرالات فيه قطب الرحى.
عن صحيفة القدس العربي