في ظلّ
تنامي تأثير التيّار الجاميّ أو المدخليّ في مسار الثّورات المضادّة، ومساندته
المطلقة للنّظام السّعودي في مواجهة الدّعاة الإصلاحيّين، ومشاركته في القتال إلى
جانب حفتر في ليبيا، ووضع كامل إمكاناته في خدمة السيسي والانقلاب ومواجهة الثّورة
والقائمين بها، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، ومساندتهم لحكّام
الإمارات في كلّ ما يخططون له؛ كان من الضروري تسليط الضّوء على هذا التيّار في
مجموعة من المقالات تجيبُ عن مجموعة من الأسئلة أولّها؛ كيف نشأ هذا التيّار؟!
حرب الخليج الثّانية
عقبَ غزو
صدّام حسين الكويت عام 1990م، نشأت جدليّةٌ في المجتمع السعودي حول استقدام
القوّات الأجنبيّة إلى المملكة للمشاركة في الحرب ضدّ العراق.
ومنشأ
الخلاف الجدلي كان في أساسه خلافا في قضايا شرعيّة فقهيّة طالما تعاملت معها
المرجعيّات السلفيّة بوصفها قضايا اعتقاديّة؛ ممّا تسبّب في مزيدٍ من التعقيد.
وكانت أهم
قضيّتين تثيران الجدال حينها؛ التعامل مع الوصيّة النبويّة بوجوب إخراج المشركين
من جزيرة العرب من جهة، وحكم الاستعانة بغير المسلمين من جهةٍ أخرى.
كان تيّار
الصّحوة الذي كان من أبرز رموزه الشّيخ سلمان العودة والشّيخ سفر الحوالي والدكتور
عوض القرني وغيرهم؛ يشكّل حالة قلق للنّظام السّعودي بموقفه الذي يتناقض وتوجهات
المملكة من هاتين القضيتين، حيث كانت مواقفهم تنذر بتصدّع حقيقيّ في العلاقة بين
السلطة السّياسية والجسم الدّيني، ممّا يهدّد بانفصام عرى التّحالف التّاريخيّ بين
السّلطتين السياسيّة والدّينيّة الذي قامت على أساسه المملكة السّعوديّة.
وفي ظلِّ
علوّ خطابٍ غدا يشبّه استقدام القوّات الأمريكية للاستعانة بها في حرب العراق باستعانة
الملوك والأمراء المسلمين بالصليبيين والتتار للتخلص من بعضهم البعض، كان لا بدّ على
السّلطة السّعوديّة أن تسارع في إيجاد تيّارٍ موازٍ يمتلك الأدوات ذاتها، ويتحدّث
بالمصطلحات ذاتها، ويحمل التّوجّه السّلفي ذاته، لكنه يسبح في اتجاه معاكس تماما.
"المدينة المنوّرة" واقتناص الفرصة
في
الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة، كان أستاذ العقيدة محمّد
أمان الجامي الهرري الحبشي، وهو أثيوبي الأصل، وولد سنة 1931م وتوفي سنة 1996م،
ومعه تلميذه أستاذ الحديث في الجامعة الإسلاميّة ربيع بن هادي المدخلي المولود سنة
1932م (وما يزال على قيد الحياة)، يبلوران تيارا سلفيّا جديدا بدأ يُطلق عليه من
التلاميذ والأتباع "سلفيّة المدينة".
وكعادة
الأجهزة الأمنيّة في أيّة سلطةٍ، تسارعُ في اقتناص الفرصة واحتواء أيّ مولودٍ ناشئٍ،
فإن شبّ عن الطوق متمرّدا ألقت به في غياهب السّجون أو أسلمته للمنافي القاسية.
فقد سارعت السلطات السعوديّة لاحتواء التيّار النّاشئ واستخدامه.. وهذا التيّار لم
يكذّب خبرا ولم يتمنّع راغبا، بل سارع إلى الإفصاح عن نفسه وإعلان ولادته بكتابٍ
ألّفه الشّيخ ربيع بن هادي المدخلي يحمل عنوان "صدّ عدوان الملحدين وحكم
الاستعانة بغير المسلمين"، يهاجم فيه بشدّة الرّافضين لاستقدام القوّات
الأجنبيّة إلى جزيرة العرب، ويؤصّل بشكل شرعي لاستعانة المملكة السّعوديّة بالقوات
الأمريكيّة وغيرها من قوّات التّحالف في الحرب على العراق.
وعلى
الفور، صدرت الفتاوى من الشّيخ محمد أمان الجاميّ بأن الجنود الأمريكان مستأمنون
شرعا، ويُحرُم أي نوعٍ من أنواع الاعتداء الماديّ أو المعنويّ عليهم، كونه اعتداء
على ذمة المسلمين.
وسائل التّمكين والانتشار
بدأ هذا
التيّار يتنامى بتسارع بعد أن غدت مرجعيّاته، المتمثّلة في الشّيخين محمّد أمان
الجامي وربيع بن هادي المدخليّ، من أصحاب الحظوة لدى "وليّ الأمر" الذي استخدم
وسائل عدة من أجل ترسيخ مرجعيّتهما والعمل على نشر تيّارهما، ومن هذه الوسائل:
أولا: الدّعم
المالي ووضع الموارد تحت تصرفّ التيّار والإغداق بالعطايا، في مقابل التّضييق
الماليّ على التيّار الإصلاحيّ.
ثانيا: إعطاء
مساحة من النّفوذ والحظوة والتّمكين في مفاصل التعليم والجامعات والوزارات، مع
إقصاء كوادر التيّار الإصلاحيّ والتّضييق عليهم.
ثالثا: ترسيخ
مرجعيّة الشّيخين الجامي والمدخلي، من خلال استخدام أسماء بارزة في الثّناء عليهما
وعلى منهجهما. وقد وقع في هذا الشّرَك (شَرَك التّزكية والثّناء والتّصدير) في
بادئ الأمر كلٌّ من الشّيخ عبد العزيز بن باز، مفتي المملكة، والشّيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء ومن أشهر العلماء في المملكة، لكن الموقف تغيّر عقب ذلكـ
وحصلت جفوة بينهما وبين الجاميّ والمدخليّ.
وهكذا نشأ
هذا التيّار وجمع حوله الأتباع، وبدأ يتمدّد خارج المملكة بدعم من السّلطات
السّعوديّة من جهة، ومن السّلطات الحاكمة في تلكم البلاد من جهة أخرى؛ فانتشر في
مصر وليبيا والكويت بشكل ملحوظ، كما أوجد شخصيّات دعويّة تابعة له في كل من
السّودان والعراق وفلسطين وسوريا.
جدل الاسم
ويصرُّ
هذا التيّار على تسمية نفسه بـ"سلفيّة المدينة"، بينما يسمّيه غيرهم
"الجاميّة"، نسبة إلى الشيخ محمد أمان الجامي، كما يسمّونه
"المدخليّة" أو "المداخلة"، نسبة إلى الشّيخ ربيع بن هادي
المدخلي.
فـ"الجاميّة"
و"المدخليّة" و"المداخلة" كلّها تسمياتٌ لمكوّن واحد يدلّ على
هذا التيّار؛ الذي يصرّ على تسمية نفسه "سلفيّة المدينة" ويرفض تسميته
بالجاميّة، ويعدّها غمزا ولمزا بالشّيخ محمّد أمان الجامي من جهة نسبه الحبشي، وأنه
يراد منها التّهوين منه والتّقليل من شأنه، ويرفضون تسمية أنفسهم بالمداخلة؛
لأنّهم ينتسبون إلى "السّلف الصّالح" لا إلى الشّيخ الذي يعدّونه أبا
روحيّا لهم.
ويعدّ
أبناء هذا التيّار تسميتهم بالجامية والمدخليّة تسمية مدبّرة ومقصودة من "أهل
الأهواء والبدع"؛ يرادُ منها صدّ النّاس عن سماع الحقّ من خلال تشويه هذا
التيّار بهذه التّسميات، كما يقولون.
وفي المقابل،
فإنَّ تسمية الجاميّة والمدخليّة تغدو طبيعيّة ومنسجمة مع حقيقة التيار ومنهج
أتباعه في التفكير؛ حين نرى أنَّهم يحصرُون سلفيّتهم المفترضة ومواقفهم الفكريّة
والعقديّة والسياسيّة في هذين المرجعين اللّذين يحضران في كلّ استشهاد واستدلال
وتفسيرٍ وتبرير.