انتهى
الاستفتاء على التعديلات
الدستورية يوم الاثنين الماضي، بعد أن تم إجراؤه في الفترة من 20-22 نيسان/ أبريل الجاري، ومن يوم 19-21 نيسان/ أبريل للمصريين بالخارج. وذلك بعد أن وافق البرلمان الذي صنعته الأجهزة الأمنية على هذه التعديلات في جلسته المنعقدة يوم 17 من نفس الشهر.
وخطورة هذه التعديلات تكمن بأنها تعيد تشكيل الترتيبات التي تؤسس لشكل وطبيعة الحكم للدولة
المصرية، بمعنى أنها تعيد صياغة طبيعة العلاقة بين السلطات الثلاث (التنفيذية، والقضائية، والتشريعية)، حيث تنص هذه التعديلات على مد ولاية رئيس الجمهورية من أربع سنوات إلى ست سنوات، وجواز إعادة انتخابه لفترة ثالثة، واستحداث مادة انتقالية تنص على انتهاء مدة الرئيس الحالي (عبد الفتاح
السيسي) بانقضاء ست سنوات من تاريخ إعلان انتخابه رئيسا للجمهورية في عام 2018، مع جواز إعادة انتخابه لفترة ثالثة، بما يعني بقاءه في الحكم لسنة 2030. كما استهدفت هذه التعديلات زيادة صلاحيات رئيس الجمهورية وسيطرته على كل من السلطة التنفيذية والقضائية، وذلك بالنص على إنشاء مجلس أعلى للهيئات القضائية برئاسته، ومنحه سلطة تعيين النائب العام، ورئيس المحكمة الدستورية.
كما تنص هذه التعديلات على أن من ضمن مهام القوات المسلحة "صون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد"، بما يعني وضع المؤسسة العسكرية في وضعية فوقية على منظومة الحكم، مما يضع هذه التعديلات في تعارض تام مع مبادئ الشرعية الدستورية التي ترتكز أساسا على مبدأي الفصل بين السلطات، وتداول السلطة، وهي مبادئ دستورية لا يمكن الاستفتاء عليها.
ولقد شكلت هذه التعديلات صدمة للشعب المصري بكل فئاته، وحتى لكثيرين من مؤيدي السيسي. فبعد ثورة عظيمة، وبعد كل هذ التضحيات التي مر بها الشعب المصري خلال سنوات الثماني الماضية، تفرض عليه مرة أخرى نفس ممارسات نظام مبارك التي ثار عليها، ولكن بعد إكسابها شرعية دستورية.
واقع الأمر أن نظام السيسي لم يسع ولم يهتم منذ انقلاب 2013؛ إلى تعبئة جماهير الشعب المصري حول مشروع وطني عبر تأسيس حزب سياسي وتبني رؤية أيديولوجية أو برنامج سياسي، ولكن عمل على ترسيخ سطوة الدولة، من خلال سيطرة المؤسسة العسكرية والأجهزة الامنية، على الحياة السياسية والاقتصادية.
ولذلك، لم يهتم أبدا منذ جاء إلى الحكم؛ بإقناع المصريين أو التمهيد للقرارات ذات الأهمية التي يتخذها، ولكنه يتبع سياسة الصدمة، بالإعلان عن القرارات وتحديد توقيت وإجراءات تنفيذها، وهو ما حدث في قرار تنازله عن تيران وصنافير، والاتفاقية الثلاثية مع السودان وإثيوبيا التي تنظم لحقوقنا في مياه النيل، وصولا للقرارات الاقتصادية من رفع الدعم، وتعويم الجنية المصري، انتهاء بالقروض التي أغرق بها الدولة المصرية حتى الاختناق، وهو ما خلق فجوة واسعة بين هذا النظام والشعب المصري، مما دفعه لبناء العاصمة الإدارية بأسوارها العالية للاختباء خلفها.
ورغم ما يبدو من نجاح نظام السيسي في تثبيت نظام حكمه، مستخدما الآلة الأمنية الباطشة، وفرض الرأي الواحد من خلال السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، لإخضاع الشعب المصري وتدجينه، والحصول على دعم المجتمع الدولي، من خلال عقد صفقات ضخمة للأسلحة مع بعض الدول ذات التأثير في المجتمع الدولي (فرنسا، ألمانيا، روسيا)، والتنفيذ المخلص والدؤوب للمخطط الأمريكي/ الصهيوني في المنطقة، إلا أن هذا النظام ينطوي على هشاشة هيكلية خلف هذه الواجهة التي تبدو صلبة. فتجارب التاريخ تعلمنا أنه لا يمكن لنظام أن يستمر مهما بلغت درجة سيطرته؛ إن لم يستطيع بناء مرتكزات داخلية لنظام الحكم، مثل تبني تطلعات الشعب في الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية، كما فعل نظام جمال عبد الناصر، أو السماح بهامش من الحرية السياسية، كما حاول نظام السادات ومبارك.
ولقد وقفت المعارضة المصرية بمختلف تياراتها، في الداخل والخارج، ضد هذه التعديلات الدستورية. ورغم ظهور انقسام بين من يرى ضرورة المقاطعة للاستفتاء ومن يرى المشاركة بـ"لا"، إلا أنه لأول مرة احترم كل فريق موقف الآخر، واعتبر أي تحرك في مواجهة هذه التعديلات يدفع بالحركة العامة للمعارضة التي تشكلت دون اتفاق، وبفعل وقوف الجميع ضد محاولة شرعنة هيمنة المؤسسة العسكرية على الدولة المصرية.
يمكن أيضا رصد إرهاصات بمحاولة تبلور تيار يمكن أن نطلق عليه أنه عابر للأيديولوجيات، فهو لا يهتم بالانتماءات السياسية، ولا بخلافات الماضي القريب أو البعيد، ولكن جل اهتمامه ينصب على كيفية استرداد ثورة يناير المختطفة، وتحرير أبنائها القابعين في سجون السيسي، واستكمال أهدافها من بناء الدولة الديمقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحرير قرار مصر السياسي من التبعية الأمريكية/ الصهيونية.
يمكن أن نعتبر أن أحد التجليات الوليدة لهذا التيار هو ظهور حملة
باطل لجمع التوقيعات الرافضة للتعديلات الدستورية. وقد أعلنت الحملة منذ البداية أنها منصة جامعة لكل مناهضي التعديلات الدستورية، بغض النظر عن موقفهم من المشاركة أو المقاطعة. ولقد سجلت منصة باطل الالكترونية حتى الآن أكثر من نصف مليون توقيع، رغم الحجب المتكرر التي تعرضت له. كما رصد موقع "نت بلوكس" المتخصص في مراقبة حرية الإنترنت؛ حجب السلطات المصرية 34 ألف موقع ونطاق الكتروني، في محاولة للتضييق على الحملة.
والذي يمكن استخلاصه، أن هناك حراكا قد بدأ فعلا، وإن كان لا زال يتلمس طريقه باستحياء. ويمكن رصد ذلك من خلال تفاعل الجماهير مع حملة "أطمن انت مش لوحدك"، وتصاعد هذا التفاعل بشكل ملحوظ مع "حملة باطل".
فهل يمكن أن تكون التعديلات الدستورية، بداية لصحوة المعارضة المصرية بمختلف اتجاهاتها، وأن تنتقل من معارضة في "ذاتها" قابعة في الماضي، يرصد كل فريق فيها أخطاء الفريق الآخر، ومن عليه أن يعتذر أولا، إلى معارضة "لذاتها"، أي تعي وتعلي من المصالح العليا للوطن، وتضع المشتركات التي تجتمع عليها القوى الوطنية في أولويات عملها؟