يقف الحراك الجزائري، الذي انطلق في 22 شباط (فبراير) الماضي، في مفترق طرق حقيقي، خاصة في موضوع كيفية التعامل مع مؤسسة الجيش الوطني الشعبي، الذي استلم مفاتيح البلاد عمليا منذ تقديم الرئيس بوتفليقة استقالته، من ناحية اعتبار الجيش مؤيدا حقيقيا للحراك ومرافقا له، أم كونه مناورا في تحركاته بهدف إجهاض الانتفاضة والاستيلاء على الحكم بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
وتظهر هذه الثنائية الكبيرة وسط الحراك الجزائري في كيفية التعامل مع مؤسسة الجيش، جلية في انقسام الشعارات التي يحملها المتظاهرون في كل يوم جمعة من المظاهرات المليونية، كما تظهر بين النخب والإعلاميين وصراعات وسائل التواصل الاجتماعي، إلى درجة انعدمت فيها الرؤية الصحيحة لدى الكثيرين، فمن جهة يواصل الحراك بعد الإطاحة ببوتفليقة، المطالبة بإزاحة بقايا حكم بوتفليقة، وخاصة رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح، وحكومة بدوي التي عينتها "العصابة" بتعبير قائد الأركان نفسه، ومن جهة أخرى تصر قيادة الجيش على المسار الدستوري في حل الأزمة، بعد تفعيلها للمادة 102 من الدستور، وهي تحاجج بأن أي خروج عن المسار الدستوري لحل الأزمة، والقبول بالحلول السياسية أو الثورية كما ينادي الشارع، من شأنه أن يدخل البلاد في دوامة الفراغ، وربما كان ذلك مبررا لقوى أجنبية متربصة للتدخل في الشؤون الداخلية.
وبين هذا الطرح وذاك، يضيق الوقت ويفشل الحوار الذي دعت اليه رئاسة الدولة المؤقتة، بعد مقاطعة المعارضة، وتصبح الانتخابات الرئاسية المقررة في الرابع من تموز (يوليو) المقبل، شبه مستحيلة عمليا، لتنفتح بعدها البلاد على كل الاحتمالات، إلا أن ما يترك الأمل قائما باستكمال الجيش مرافقته لحراك الشعب، وعدم الانقلاب عليه، هو الالتزام الواضح من طرف قيادة الأركان على لسان الفريق أحمد قايد صالح، بحماية التظاهرات السلمية، والتعهد بعدم نزول قطرة دم واحدة.
الجيش الجزائري بين المسارين .. الدستوري والتحرري
وإذا ما تتبعنا موقف الجيش من الحراك الشعبي اليوم في الجزائر، نجد أن هنالك تطورا إيجابيا في موقف الجيش، حيث أن خطاب الجيش كان مرتبكا في البداية، عندما تحدث القايد صالح بعد انطلاق الحراك، عن أياد أجنبية وعن "المغرر بهم"، قبل أن يتم سحب ذاك الخطاب بسرعة من المواقع الرسمية، ليشهد خطاب الجيش قفزة نوعية، بتبنيه الصريح لمطالب الشعب وشرعيتها، إلى أن أعلن قايد صالح قائد الأركان يوم 26 آذار (مارس) الماضي، اقتراحه تطبيق المادة 102 من الدستور، قبل أن يؤكد بعد اجتماع القيادة العليا للجيش ضرورة رحيل رئيس الجمهورية فورا في 2 نيسان (أبريل)، معتمدا على المادة 102 من الدستور، مضيفا إليها المادتين 7 و8 اللتين تنصان على أن الشعب مصدر السيادة ومصدر السلطة التأسيسية، إلا أنه بعد استقالة بوتفليقة تحت ضغط الشارع والجيش معا، كانت الجماهير تنتظر من قيادة الجيش، أن تعيد السلطة للشعب مباشرة من خلال المواد 7و8 إلا أن الجيش مضى في تطبيق المادة 102، وإعلان الرابع من تموز (يوليو) المقبل تاريخا لإجراء الانتخابات الرئاسية، وتسليم رئاسة الدولة المؤقتة لأحد رجالات بوتفليقة، وهو رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، كما أبقى على حكومة بدوي التي عينها بوتفليقة قبل ذهابه بأيام قليلة.
ورغم استقالة رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز تحت ضغط الشارع، وهو من الباءات الثلاث التي يطالب الشارع بتنحيتها، إلا أن بقاء ابن صالح وبدوي، ظهر مع مرور الوقت، أنه خيار الجيش للبقاء في الإطار الدستوري، وأن الجيش لا يريد أن يغامر بمرحلة انتقالية تطالب بها المعارضة، قد تمتد إلى سنة ونصف بقيادة مجلس رئاسي، لا يعرف لونه ولا نواياه، علاوة على أن عملية اختيارهم ستكون صعبة وربما "غير ديمقراطية"، لأن هذا الخيار كما يعترف الكثيرون في الجزائر، هو خيار مليء بالمخاطر، كونه سيفتح المجال لصراعات لا حصر لها، خاصة صراعات الهوية المستفحلة من الآن، وما ينجر عن ذلك من صراعات تعديل الدستور والمجلس التأسيسي، وهي مطالب تصر عليها بعض القوى غير الشعبية التي تخشى حاليا الذهاب إلى الصندوق، من دون أن تلملم أوراقها، لأنها تدرك أن الشعب لن ينتخب عليها، لكنها في الوقت نفسه، تمتلك حججا قوية، ومنها أن الانتخابات في وقتها المحدد دستوريا، سيترك القوى غير الدستورية تتلاعب مجددا بالانتخابات، على اعتبار أن من يقود المرحلة الانتقالية الحالية، هم معروفون لدى الجزائريين بسوابقهم في تزوير الانتخابات، وخاصة الوزير الأول بدوي، وفي ظل عدم تغيير قانون الانتخابات وتعيين لجنة مستقلة للإشراف على تنظيم الانتخابات، تصبح العملية برمتها مشكوكا فيها.
غير أن ما لا يدركه الكثيرون في الجزائر والعالم العربي، أن الدولة العميقة في الجزائر، وبأذرعها الطويلة المنتشرة في كل مكان، تعمل كل ما بوسعها لإجهاض حراك الجزائريين، وهذا ما يحذر منه الجيش، الذي أعلن أنه يصطف مع خيارات الشعب، وأنه يمتلك من المعلومات ما لا يمتلكه الشعب، وأن تحركات "مشبوهة" قد تم رصدها من طرف الجيش، تجمع قيادات سابقة من المخابرات وجناح السعيد بوتفيلقة وقوى أجنبية، للإطاحة بقيادة الجيش الحالية المعادية للمصالح الفرنسية، الأمر الذي يجعل الجيش أمام أولوية مواجهة مخططات هذا التيار الخطير، ولو على حساب المطالب الشعبية المستعجلة، التي يقول الجيش إنه معها، لكنه يؤجل تحقيق بعضها إلى غاية انتخاب رئيس جديد من طرف الشعب وليس من طرف العصب والقوى غير الشعبية.
ولعل الحرب الضروس التي دخلتها قيادة الجيش حاليا مع قوى الفساد، والمحاكمات الواسعة لكبار رجال الأعمال والنافذين، ممن لديهم ارتباطات واسعة بالقوى غير الدستورية والدولة العميقة، تبرر هذا الوضع الذي تعيشه الجزائر حاليا، من حراك مستمر، ربما يحتاجه الجيش كغطاء للاستمرار في قصقصة أجنحة الدولة العميقة، إلا أن هذا الطرح، كما قلنا لا يقنع كل الحراك، حيث يصر طيف واسع منه، على الحل السياسي، بإنشاء مجلس رئاسي وحكومة كفاءات وطنية يقبل بها الحراك، بل إن استمرار الحراك في حد ذاته، يبدو أنه بات مطلب الجميع بهدف استكمال تصفية الوضع الملتبس، وهو ما يعني أن المسارين الدستوري والتحريري لا يتناقضان بالضرورة، وإنما يكمل أحدهما الآخر.
قيادات الجيش الحالية لا تشبه قيادات العام 1992
وحتى نفهم حركية الجيش الوطني الشعبي في الجزائر حاليا وتعامله مع ثورة الشعب، من المهم التنويه إلى الاختلاف الجوهري بين قيادة الجيش الحالية، ذات الصبغة الوطنية، وقيادة الجيش سنة 1992 مثلا، عندما وقع الانقلاب على اختيار الشعب في كانون ثاني (يناير) 1992 بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات التشريعية. حينها كان الجنرالات الذين أجبروا الرئيس الشاذلي بن جديد على تقديم استقالته، ممن يسمون جنرالات فرنسا، وكان على رأسهم وزير الدفاع خالد نزار، وقائد الأركان محمد العماري، والعربي بلخير وتواتي، والوحيد الذي لم يكن مصنفا من جنرالات فرنسا هو الجنرال توفيق، قائد المخابرات، الذي كان يتحرك طبعا في السياق نفسه وضمن الأهداف ذاتها، قبل أن يتحول فيما بعد، أي بعد 25 سنة من السيطرة التامة على مقاليد الحكم قبل أن يقيله الرئيس بوتفليقة في أيلول (سبتمير) من عام 2015، وهي السنة التي تقول قيادة الجيش الحالية، إن مؤامرة كبيرة بدأت ضد الجزائر، وهي حاليا تقوم بتفكيك ألغامها صيانة لوحدة وسلامة واستقرار الجزائر.
لقد ظلت فرنسا بالفعل، تسيطر على مقاليد السلطة في الجزائر عمليا، عبر السيطرة على قيادة الجيش، وغيرها من قوى التأثير والمؤسسات الأخرى، وذلك وفق ما تكون قد أقرتها البنود السرية لاتفاقيات إيفيان التي جرت بين جبهة التحرير الوطني وفرنسا قبل الاستقلال، ورغم أن تلك البنود السرية لتلك الاتفاقية المشؤومة قد بدأت تتكشف، خاصة أن عمرها الزمني قد انتهى، إلا أن مخاطر ما كانت تمارسه فرنسا من سطوة وسيطرة في الجزائر، أهلكت الحرث والنسل بالفعل، وهو الوضع الذي يبدو أن قيادة الجيش الحالية كانت ترفضه، إلا أن الالتزام السياسي كان يمنعها من التحرك. لكن بعد أن تحرك الشعب، وأعطى غطاءه الشعبي لتصفية عملاء فرنسا في الجيش والدولة، بدأت الآلة بالتحرك، وقد لاحظ الجزائريون ذلك في أشكال متعددة، منها "تطهير" الجيش من أولاد فرنسا، وتعريب المؤسسة العسكرية الجزائرية ووقف التعامل باللغة الفرنسية، وشن حملة واسعة ضد الدولة العميقة التي استغلتها واستعملتها فرنسا لعقود طويلة في إخضاع البلاد، والاطاحة بالكثير من الرؤوس الداعمة أيديولوجيا وثقافيا لفرنسا.
وتعتقد قيادة الجيش الحالية أنها بحاجة إلى بعض الوقت لتطهير المؤسسات من مخلفات المرحلة البوتفليقية، من الألغام التي خلفتها، وكذا من عملاء الطابور الخامس الذين ينتشرون في كل مكان، غير أن هذه المهمة تقف إزاءها مهمة شعب كامل تواق إلى الحرية، وهو شغوف باستعادة سيادته على بلده، وهي معادلة قد تبدو متناقضة، لكنها تصب في النهاية في معين واحد.
متابعون: لا يمكن الحكم على موقف الجيش بمنطق الأسود والأبيض
ولا يكاد يخرج رأي المتابعين للشأن الجزائري عن حالة الالتباس الحاصلة حاليا، مع ميل واضح إلى تفهم الخطوات التي يقوم بها الجيش بالنظر إلى الأوضاع الدقيقة والحساسة والخاصة التي تمر بها الجزائر، في مواجهة مخاطر داخلية وخارجية كبيرة، وفي هذا الإطار يقول الصحفي عبد الحميد عثماني من صحيفة "الشروق" الجزائرية لـ "عربي21"، "إن تقييم موقف الجيش مما يجري في الجزائر من ثورة سلمية، لا يمكن الحكم عليه بمنطق الأبيض والأسود، بالنظر إلى تعقيدات الوضع المتداخل شعبيا وسياسيا ودستوريا في مناخ إقليمي ودولي متربص بالبلد"، معتبرا أن "قيادة الجيش تساير وتسير الحراك الشعبي وفق هذه الإحداثيات المتناقضة".
ويضيف عثماني: "مع ذلك فإن تحليل خطابات الجيش والمؤشرات تؤكد دعم قيادته لمطالب الشعب منذ البدايات الأولى، بغض النظر إن كان الأمر يتعلق بموقف مبدئي أم براغماتي؛ إذ لا يمكن أن نشكك في انحياز الجيش لحراك الشارع، وهو يعبر عن تأييده له في كل خطاباته ومرافقته حتى النهاية، لكن ذلك لا يجسده بالضرورة تنفيذ المطالب بشكل مباشر وبتدخل خارج القانون، لأن الجيش أمام إكراهات دستورية تفرض عليه التعامل بحذر مع مدخلات الأزمة ومخرجات الحل. وحتى إصرار الجيش على ضرورات التزام التدابير الدستورية، لا أقرأه شخصيا في سياق المناورة أو رفض المطالب، بل هو خطاب نمطي وتقليدي ضمن القيود الدستورية. كما أن التحذيرات التي يطلقها للمواطنين ليست فزاعات للتخويف، بقدر ما هي هواجس فعلية تتهدد البلاد والعباد".
وختم عثماني بأنه "لا يستبعد أن الجيش قد حضر سيناريو بديلا للتعامل مع حالة الفراغ الدستوري إذا اقتضى الحال الذهاب بعيدا في تلبية مطالب الشعب، لكنه في الوقت الحالي لا يزال حريصا على تطبيق الدستور بشكل نصي بدل اللجوء إلى روحه وقواعده المؤسسة للسلطة السياسية، معتقدا أن الجيش يقدم ما عليه وقد يكون يؤدي أدوارا أخرى في الخفاء، لكن على الشعب أن يواصل حراكه حتى تتحقق مطالبه في الانتقال السياسي".
في المقابل يتردد الإعلامي محمد رابح مدير موقع "سبق برس" الجزائري في تصريح لـ "عربي21"، في الفصل ما إن كان الجيش يؤيد الحراك أو يقاومه، مشيرا إلى أن الجيش يخشى التورط في الحقل السياسي، ومقابل ذلك هو لديه مخاوف يعبر عنها في بياناته وهذا ما يجعله برأيي يظهر إرادة بالتمسك بالمادة 102 من الدستور، لكن يجب أن تصل قيادة الجيش إلى قناعة أن الشعب الذي خرج بالملايين يطالب باسترداد سيادته في اتخاذ القرار، ويرغب في اختيار ممثليه في ظروف أخرى غير التي تتوفر حاليا، وهذا ما يحتاج توافقا من أجل الدخول في فترة انتقالية بسلطة انتقالية تتولى تنظيم الانتخابات الرئاسية بعد تهيئة الظروف؛ سواء من حيث إعادة الثقة برحيل رموز النظام من واجهة تسيير شؤون البلد، وكذلك إعداد النصوص القانونية، وكذلك التحضير للأمور الللوجيستية، وهذا لن يتطلب أكثر من 6 أشهر حسب اعتقادي.
الجيش الجزائري يدعم الانتفاضة ويحميها
أما الإعلامي أسامة وحيد صاحب البرنامج التلفزيوني "عمر راسك"، فقد دافع بقوة في حديث لـ "عربي21"، عن خيارات الجيش بلا تردد، معتبرا أن قرار الجيش في تنحية العصابة الحاكمة، لم يكن فقط ضد عصابة الحكم، ولكن ضد محاولات التهريب الممنهج لأهداف الحراك، حيث إن مرحلة الأخضر الإبراهيمي في مفاوضاته الأولية، كشفت أن أطياف بعينها كانت تنتظر فرصة التمثيل لتجتمع معه في مفاوضات نيابة عن الشعب بفندق الأوراسي، وهو المخطط الذي أسقطه قرار الجيش بتنحية العصابة وغلق ساحة اللعب معها.
وأعطى أسامة وحيد أدلة على تلاحم الجيش مع شعبه، منها أن الجيش اصطف من اليوم الأول مع الشعب، إن لم يكن هو من وقف وراءه بشكل أو آخر، وهو من وفر الحماية للمسيرات كلها، ولو أراد الجيش الوقوف ضد الحراك وإفشاله، هل كان سيعدم الوسائل المباشرة أو غير المباشرة؟ وأشار إلى أن الجيش كان يبحث عن تغطية لتصحيح الأوضاع وقلب الطاولة على "عصابة" يراها الجميع، و"عُصبة" لا يراها إلا هو ويعلم أنها الداء الحقيقي، ومنه فإن قراراته اليوم، هي أشبه بالقرارات والمراوغات السياسية في حرب خلف الستار لا يراها الشعب، لكن قيادة الجيش تعيشها لحظة بلحظة لتفكيك الألغام العميقة و الداخلية.
ولا يختلف كثيرا عن هذا الطرح العضو المؤسس في "حركة عزم"، التي ظهرت مع الحراك، الأستاذ فيصل عثمان، الذي اعتبر في تصريح لـ "عربي21" أن موقف الجيش إلى حد الساعة في المستوى المطلوب، إذ لم يكتف بدور المراقب والمرافق، بل تعدّى في استجابته ذلك إلى تقديم المقترحات والمبادرات لحل الأزمة التي تعيشها البلاد، بداية من اقتراح تفعيل المادة 102 من الدستور ثم الضغط لتطبيقها، وليس انتهاء بحثّ العدالة على فتح ملفات الفساد وتقديم الضمانات لمرافقتها، مشيرا إلى أن الجيش يتخذ في كل الأحوال موقف المؤيّد للحراك الشعبي صراحة، وقد تعهّد بالاستجابة للمطالب الشعبية كاملة غير منقوصة ولازال يسير في هذا الاتجاه".
وأضاف: "لا ننسى في هذا الصدد أن المؤسسة العسكرية مقيدة دستوريا، وهامش الحركة لديها محدود، لذا تجد القيادة العليا للجيش نفسها بين مطرقة الدستور وسندان القوى الأجنبية ووكلائها المحلّيين من جهة، والالتزام بوعودها لتحقيق مطالب الحراك الشعبي من جهة أخرى. ولازال الجيش يرسل الإشارات وينتظر استجابة الفاعلين السياسيين لطرح الحلول والمبادرات الكفيلة بحل الأزمة، لكن يبدو أنّ الإفلاس الذي أصاب الأحزاب والشخصيات السياسية يمنع هؤلاء من فهم خطاب الجيش فضلا عن التفاعل معه، وها قد وجدنا أنفسنا أمام معارضة تجيد الرفض وتعجز عن تقديم الحلّ".
وقد استهجن فيصل عثمان سلبية المعارضة الجزائرية الكلاسيكية وبقاءها متفرجة من دون قوة اقتراح لحل الأزمة، مع توفر الحلّ الدستوري بصيغ متعددة مع ما يتماشى مع المطالب الشعبية ورغبة المؤسسة العسكرية معا، موضحا أنهم في "حركة عزم"، قدموا خارطة طريق قانونية للخروج من الأزمة تقوم على ضرورة إصدار رئيسي المحكمة العليا ومجلس الدولة لفتوى دستورية في روح المادة 102 من الدستور، تكفل استقالة رئيس الدولة ابن صالح وتعويضه بشخصية لا تلاقي الرفض الشعبي كما هو شأن وجوه النظام القديم.
بين المدني والعسكري.. وجدلية الحكم
في تاريخ الحكم الجزائري، تبرز جدلية أولوية السياسي على العسكري، بالطريقة ذاتها التي ظل بها الجدل أيام الثورة الجزائرية، حين انحصر الصراع حول أولوية الداخل عن الخارج أو العكس، حيث ظل الداخل جبهة عسكرية مشتعلة في وجه المستعمر، بينما ظل الخارج جبهة سياسية وأخرى عسكرية شبه معطلة، لكن حدث أن استولى الخارج على الحكم بواسطة جيش الحدود الذي قام بانقلاب على الحكومة المؤقتة، وعاد السياسيون من الخارج، ليتحالفوا مع العكسر لحكم الجزائر.
من وقتها، ظل الجيش هو من يصنع الرؤساء في الجزائر، فقد صنع جيش الداخل لجيش التحرير الوطني الحكومة المؤقتة، قبل أن يصنع الجيش بقيادة الأركان بقيادة بومدين الرئيس بن بلة، قبل أن ينقلب العقيد بومدين على الرئيس الذي وضعه هو.
وبعد وفاة بومدين عام 1978، عين العسكر العقيد الشاذلي ين جديد رئيسا للجمهورية، وفي العام 1992، قرر العسكر أنفسهم الانقلاب على الانتخابات، وأطاحوا بالرئيس الذي وضعوه بعد إجباره على الاستقالة، وبعد أن نصبوا بعدها مجلسا أعلى للدولة، وضعوا على رأسه العقيد علي كافي، ثم جاء العسكر بالمجاهد بوضياف ونصبوه دون انتخابات رئيسا للدولة، قبل أن ينقلبوا عليه بعد أشهر قليلة من تنصيبه، بعد أن شرع في كشف ملفات الفساد، حيث قتل بطريقة هوليودية على المباشر في مسرح عنابة وهو يلقي خطابا.
ثم جاء العسكر مرة أخرى بالجنرال زروال رئيسا سنة 1994 بعد تزوير الانتخابات كالعادة، التي فاز بها الشيخ نحناح، قبل أن يرمي الجنرال زروال المنشفة ويقرر الانسحاب تحت حصار نفس الجنرالات الذين أتوا به، وخوفا على نفسه من مصير سلفه بوضياف، قبل أن ترسو سفينة العسكر على بوتفليقة العام 1999، حيث تم تنصيبه رغم مقاطعة الشعب والمترشحين لها، وحكم باسم الجنرالات والعسكر 20سنة، وحتى عندما قامت ثورة 22 فبراير، ما كان لبوتفليقة أن يذهب لولا أن الجيش هنا أيضا حسم أمره، وطلب من بوتفليقة الاستقالة بصيغة "فورا".
هذا السرد التاريخي يشير بوضوح إلى أن صناعة الرؤساء في الجزائر، هي صناعة عسكرية بامتياز ولا لبس في ذلك، وأن أولوية العسكري على المدني هي حقيقة لا لبس فيها، ما يحيلنا إلى فهم الوضع الراهن، وهل هذا يعني أن العسكر سيواصلون نفس الطريق نفسه أم لا؟ والإجابة التي لا يستطيع أحد إنكارها هي أن الجيش الذي ظل دائما يصنع الرؤساء، ويحكم من وراء الستار، لن يتولى بالتأكيد السلطة بشكل مباشر كما هو الحال في مصر مثلا، بل سيحاول إيجاد رجل مدني يمكنه أن يكون رجل المرحلة، وذلك وفق توافقات معينة، على أن تكون الانتخابات نزيهة وشفافة، لأن متغير الثورة هذه المرة هو المتغير الجديد والطارئ الذي يفرض نفسه، كما أن متغير نوع قيادة الجيش الوطنية لا يقل تأثيرا في المشهد.
هل سيكون هذا هو منعرج يتولى فيه المدنيون سلطة الحكم فعلا؟ بينما يعود الجيش إلى تولي مهامه الدستورية في حماية الحدود فقط؟ هذا هو السؤال الذي تدور حوله الآن رحى الصراع.. ولا أحد يملك إجابة واضحة له.
بقية هواجس
صحيح أن وعيا هائلا يتبلور حاليا في الجزائر، في المسار التحرري من بقايا الاستعمار الفرنسي، حيث يتحدث الجزائريون بحماسة، أن ثورة تشرين ثاني (نوفمبر) التي قادها جيش وجبهة التحرير الوطني، قد انتهت بتحرير الأرض الجزائرية، إلا أن ثورة 22 شباط (فبراير) الماضي، لها هدف أعظم وهو تحرير الإنسان الجزائري، وذلك بقيادة الجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني، إلا أن هواجس مشروعة تبقى تعتلج في الكثير من النفوس، حول حقيقة نوايا المؤسسة العسكرية الجزائرية، رغم كل ما تقدمه من علامات طمأنة وأمان؛ ذلك أن شبح العشرية السوداء لم ينته تماما من الذاكرة الجماعية للمواطنين، كما أن شبح النموذج المصري يظل كالكابوس يضغط على صدور الكثيرين، وقد كان الإخوان في مصر وقت الثورة، يقولون كما يقول الجزائريون اليوم (الجيش والشعب خاوة خاوة)، كانوا يقولون (الجيش والشعب إيد واحدة)، قبل أن تنقلب اليد الرحيمة تلك إلى يد غليظة.
إنه هاجس مؤلم، يحاول الجزائريون إبعاده بإصرار، وهم يرون في القيادة الجديدة روحا نوفمبرية مفقودة منذ زمن بعيد. الأيام والأسابيع المقبلة ستظهر الهواجس من الحقائق، ومن يدري فقد تدخل قيادة الجيش الجزائري، التاريخ من أبوابه الواسعة، حين تنحاز إلى الشعب والديمقراطية وتطرد وساوس الشيطان.
الإسلام السياسي بالسودان.. المرجعية وأزمة المشروعية
تونس.. كيف نجح الإسلاميون وخصومهم في الانتقال الديمقراطي؟