لم ألتقط أية إشارة إلى اختلاف
رمضان هذا العام عن الذي سبقه، سوى موجة برد ربيعية متأخرة مرت البارحة بالشمال
التونسي، وربما قال المختصون بالمناخ إنها معتادة في مثل هذا الفصل. أحاديث التونسيين وسمرهم الافتراضي وتهانيهم المتطابقة الجاهزة هي نفسها التي تدور في الفيسبوك منذ سنوات، كأنها مخزنة في الحواسيب فيعاد إرسالها، وقليل من يكلف نفسه كتابة جملة خاصة تشي بعناية واهتمام بالمرسل إليه. وأعتقد أن أصدقاءنا العرب في كل مكان يتبادلون نفس العبارات والصور، فهي ترد من كل جهات الأرض، بما يوحد صورة رمضان عربيا وكونيا لجهة التواصل الافتراضي الجاهز. لكن هذا عرض من جوهر أراه وسأحاول أن أسميه؛ فعينة من المسلمين والتوانسة حوّلوا رمضان إلى حفلة أكل، وأفرغوه من معاني مجاهدة الذات وتربيتها على الإيثار.
البيض متوفر بكمية كافية
لم تنشغل حكومة تونس بفقدان الأدوية من السوق بقدر انشغالها باحتمال فقدان البيض في رمضان، لذلك كانت وزارة التجارة تصدر بلاغات متتالية عن توفر البيض بكميات كافية لرمضان. اطمأنت ربة البيت، فالبريكة مضمونة (والبريكة لمن لا يعرفها؛ أكلة تونسية تحسب في المفتحات، وتتكون من طبقة شفافة من العجين تلف على حشو من البيض وسمك التّن والبقدونس)، وقد تحولت إلى ركن من أركان رمضان التونسي، ونخشى أن يفتى المفتي بأنها ركن من الإسلام، فالمفتى التونسي عاطل عن العمل وقد يجتهد لتبرير أجره.
خارج حديث البيض والتهاني المعلبة، هل نجد ميزة أخرى لرمضان في تونس؟
ذات النهم في الشراء وذات العبارات المتذمرة من الغلاء تعود كل رمضان، بما يكشف مواطنا كذابا يستعمل التذمر للتغطية على مصدر دخله المشبوه. لقد رأينا طوابير "قضية رمضان" في المساحات الكبرى، بشكل يوحي بمجاعة قادمة.. لهفة كاشفة لأسرة تونسية مشغولة بطاولتها الخاصة، ورمضان عندها ركشة البيت. و"الركشة" مرادف للجلسة الخاصة الحميمية، حيث لا يأتي ضيوف مزعجون. هناك متصدقون لا نعلمهم الله يعلمهم، ولكنهم لا يحولون رمضان التونسي إلى مظهر عبادة، فهم أقلية. وقد أغلقت في تونس موائد رمضان التي كانت فرصا للصدقة والعطف؛ خوفا من الاستعمال السياسي لها. ففي تونس قوم لا يرحمون، ولا يحبون رحمة الله أن تنزل على الناس.
يجب أن لا نمر من هنا دون تذكر معركة المقاهي في رمضان: هل تفتح أم تغلق؟ وهناك داعية يبيع الخضر طيلة السنة، ثم يعود إلينا في رمضان لإغلاق المقاهي، حيث يذهب المفطرون. هذه السنة عندنا وزير سياحة يهودي الديانة طلب منه أن يفتحها عنوة، فقال باحترام خصوصية المسلمين، فأسقط في يد البعض، فبات يهوديا لكنه خوانجي.
طرفا هذه المعركة لم يتزحزحا عن مشهدهما وهما يطبعان رمضان بطابع متكرر وممل، ولا بارقة لخروجهما من هذا النقاش المثير للقرف.
هناك نقاش آخر: هل تذهب إلى التراويح أم إلى المقهى للعب الورق، أم توفق بينهما بنصف تراويح ونصف لعبة ورق قبل السحور؟ ومتى تنام باكرا لتقوم إلى العمل؟ وكيف توفق بين نوم قليل ويوم عمل كامل؟ قبل ذلك: أي المسلسلات تتابع، أم تتابع مهرجان المدينة؟
كم مرة خاض تونسيون هذا النقاش؟ كلما أتى رمضان، وكلما سيأتي سيعود النقاش نفسه.
المفتي يشقى برؤية الهلال
المشهد المتكرر كل سنة للمفتي وفرقه الهاوية تبحث عن الهلال في الشفق بمناظير مقربة، ثم انتظار بلاغ المفتي لإعلان الدخول في الصوم. ومنذ الثورة، أمكن لنا السخرية من المفتي؛ لأنه ما زال يبدأ خطابه بتهنئة رئيس الجمهورية والسيدة حرمه (كانت هذه جملة راسخة من عهد البايات والمفتي من بقاياهم الأحفورية).
هذا المشهد يعطي فكرة عن إسلام تونسي يتحذلق مع النص الديني، ومع تقدم العلم والتقنية. فلا هو اكتفى باعتماد الرؤية بالعين المجردة، كما ورد في الحديث (وكما لا زال يردد كثير من خطباء الجمعة الرافضين لاستعمال التقنية في
العبادة باستثناء المايكروفون)، ولا هو ذهب إلى اعتماد تقنية متقدمة تحدد موقع الهلال بالدقيقة. فالإسلام التونسي يقسم المسافة نصفين، فيرضي جماعة الرؤية ويرضي جماعة التقنية، ثم ينتظر مفتي السعودية حتى إذا رأى الهلال هناك رأى مفتينا الهلال هنا، وحمد الله على اختلاف الفارق في التوقيت، لكنها فرصة على كل حال لنرى سماحته يتحول إلى بابا كنيسة بجبّة تونسية، فقد وسع مهامه (بلا نص) إلى إجبار من يدخل الإسلام على أن يمر بمكتبه ليصير مسلما. وهذا حديث آخر نؤجله إلى ما بعد العيد.. يكفيه أن يدلنا على هلال العيد مقابل راتب وزير بامتيازاته طيلة السنة.
رمضان فوتوكبي لما سبق
كل هذه المشاهد تحول رمضان في تونس إلى نسخة مكررة مسحوبة على آلة طابعة واحدة. هل هناك سبيل لكي يكون رمضان مختلفا؟ تقل فيه أو تختفي مظاهر
الاستهلاك النهم؟ والتعبد المصطنع؟ السؤال موجه للمؤمنين برمضان، والذين ينخرط كثير منهم في حمى الاستهلاك الرمضاني، فلا يخرج عن قطيع المستهلكين.
إني لا أرى هذا الأمل؛ لأن رمضان صار سوقا تجارية ليس أكثر. لقد تحكم التجار في كل مناسبة وحولوها إلى سوق. رمضان مناسبة ربح وفير لكل ذي تجارة، حتى أن البعض يحول حانوت بيع أحذية إلى محل مرطبات رمضانية (طبعا خارج كل رقابة قانونية أو صحية). لن أتحدث عن غنيمة المقاهي.. أما شراء ملابس الأطفال في العيد فيحول نصف رمضان الثاني إلى جحيم.
مدخل تفريغ رمضان من معانيه الدينية الروحانية والتضامنية والإنسانية (الجهادية)؛ هو وضعه في سياق الاستهلاك عامة والاستهلاك التفاخري. وهذا ليس جديدا، ولكن التجار يستولون على المناسبة التعبدية ويفرضون منطق الاستهلاك على شخص؛ بلا منعة ولا رؤية دينية.
الرؤية الدينية التعبدية لا يقدمها المفتي ولا تيارات الإسلام السياسي. هي حالة إيمانية خاصة تصل إلى روح رمضان، فتعيده فرصة تواضع للناس وصبر وتدريب على الإيثار، لا مناسبة للأثرة. هذه الرؤية كانت دوما خاصة؛ يصلها قليل من الناس، وهؤلاء لا يقعون فريسة للتجار، ولا يسلمون لهم بمنطق الاستهلاك الخادع.. هؤلاء وحدهم من يجعلون رمضان مختلفا عن بقية حفلات الشواء الصاخبة. فاللّهم اجعلنا من هؤلاء الذين كلما قال لهم تاجر: تعال أبيعك ما لا تحتاج، قال له: اللهم إني صائم.