يتكون
الإنسان من جسد وعقل وروح ونفس، وقد راعى الإسلام في تشريعاته كل غذاء لمكونات
الإنسان، وراعى كذلك في تشريعاته أثر كل مكون من هذه المكونات في الأحكام الشرعية،
فنجد الشرع قد خفف في تشريعاته، في كل مؤثر يتعلق بكل مكون. فلو كان الجسد عليلا
يخفف التشريع عنه في العبادات والمعاملات التي لها علاقة بصحة الجسد، وكذلك بقية
المكونات، وبخاصة النفسية منها.
فنجد
تشريعات كثيرة راعت حالة الإنسان النفسية، فرخص الشرع للإنسان الخائف، أو الهارب من
حاكم ظالم، أو من ظالم يتبعه ليلحق به ضررا، أن يصلي في بيته، ولا يصلي الجماعة في
المسجد. وفي أمر مهم كالقضاء، اشترط الإسلام أن يكون القاضي وقت قضائه في حالة
مزاجية ونفسية معتدلة، فنص على أنه: لا يقضي القاضي وهو غضبان، فإن الغضب سيكون
مانعا من عدالة القاضي، واتزان حكمه، مما يعني أنه سيتم ظلم إنسان، ولذا عليه أن
ينتظر حتى ينتهي غضبه، ثم بعد ذلك يصدر قراره وحكمه.
وطلاق
الغضبان راعى الشرع فيه حالة صاحبه، فإذا وصل به الأمر إلى حالة لا يستطيع الإنسان
السيطرة على نفسه، أو يشعر بندم بعد قوله لفظ الطلاق، فهذه حالة لم يوقع فيها
الشرع الطلاق، بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"
أي في غضب، وللعلماء نقاش كبير في درجة الغضب التي لا يقع فيها الطلاق. وأفضل من
فصّل فيها الإمام ابن القيم، وكتب في ذلك رسالة مهمة بعنوان: "إغاثة اللهفان
في حكم طلاق الغضبان".
وفي
السنة النبوية، أن المسلم إذا رأى إنسانا مبتلى بفقد عضو في أعضاء جسده، فإنه
يدعو: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه. والمطلوب هنا سرية
الدعاء، فإن الجهر به يؤذي مشاعر المبتلى ونفسيته. فالغرض من الدعاء أن تدعو الله،
لا أن تجرح مشاعر الناس. وهو ما يقال أيضا عن دعاء الزوج في ليلة عرسه حين يضع يده
على جبهة الزوجة، فليس من اللائق منه أو منها أن تسمع في الدعاء عبارة: واكفني
شرها. والنماذج كثيرة جدا، لكني اكتفيت ببعضها، للدلالة على الأمر.
ولكن
هناك عدد من المسائل التي أرى أنها تحتاج لمراجعة من العلماء المعاصرين، من حيث
أثرها النفسي على أصحابها. فمثلا: في قضية إسقاط الجنين المشوه، والذي يثبت الطب
أنه سيولد فاقدا للعقل، أو لحواس كثيرة منه، ويبلغ التشوه فيه مبلغا كبيرا، وبخاصة
بعد مرور أربعة أشهر، الرأي المشهور والذي يفتي به العلماء الآن؛ أنه إذا كان قبل
الأربعة أشهر، فهناك رأي يجيز الإجهاض، لكن بعد ذلك مهما كان السبب فلا يجوز، إلا
في حالة مراعاة صحة الأم، إذا أثر عليها بقاء الجنين، سواء كان سليما أو مريضا.
لكن الغريب أننا نراعي هنا حالة الأم الصحية البدنية، فأجزنا لها الإجهاض، وهو تعب
بدني، ربما يعالج، لكن لم نراع حالتها النفسية في حالة جنين مشوه، بعد مرور
الأربعة أشهر، ولم نجز لها الإجهاض في هذه الحالة، وهو ألم أشد وأقسى على الأم،
فهل نراعي ألم الأم البدني، ولا نراعي الألم النفسي؟!
وكذلك
ما يكثر من ذكره المشايخ، في الاستشهاد بأن المرأة إذا رفضت الجماع تبيت وتلعنها
الملائكة، فإني أرى أن الأمر يرتبط بنشوز المرأة، والرفض لعلة الرفض، وليس لأسباب
تمنعها من العلاقة الجنسية، وعلى رأس ذلك: نفسيتها، فقد يكون الزوج قبلها قد أساء
في معاملتها، أو حدثت بينهما مشاجرة، أو خلاف يمنع النفس من تقبل الأمر، وإلا أصبحت
العلاقة مجرد تلاقي أجساد، وهو ما يأباه كل عاقل وحر. فأرى أن مثل هذه الأسباب
تخرجها من باب اللعن، وبخاصة أن الشرع خفف عنها التكاليف بسبب الدورة الشهرية،
والنفاس، وارتباط ذلك بحالتها المزاجية.
وكذلك
قضية المنتحر، والذي غالبا ما يسبقه مرور المنتحر بحالة نفسية صعبة، تجعله يفكر
جديا في إنهاء حياته، ثم بالفعل يقدم على الانتحار وينفذ. نعلم جميعا حرمة هذا
الأمر، لكن ما نراه في خطابنا الديني هو النظر على الفعل، دون النظر على دوافعه
النفسية. وغالبا يفقد المنتحر اتزانه العقلي والنفسي قبل الانتحار، وهو ما يجعلنا
ننظر له بنظرة الرحمة الدينية، وعلى ذلك نصوص مهمة، منها: دعاء النبي صلى الله
عليه وسلم لمنتحر بالمغفرة والجنة.
وقضية
المرأة المغتصبة، والتي حملت من هذا الاغتصاب، فنجد الفقهاء يتشددون في قضية إسقاط
الجنين، وأنه لا يسقط، ولا عذر في إسقاطه، حيث لا علة طبية هنا للرخصة.. وأعتقد أن
هناك بُعْدا آخر يحتاج للتأمل، وهو البعد النفسي، لجنين من حادثة اغتصاب، وطبيعة
المجتمع الذي تعيش فيه، ونظرته لها ولجنينها فيما بعد، وهي نظرة لا شك تؤثر في
الفتوى والرأي، فيجب أن تراعى. لست أقترح رأيا محددا هنا، لكني أشير فقط إلى أهمية
مراعاة صاحب الحادثة، وهي المرأة، ونفسيتها، فلا ينعزل الفقيه بنقول تراثية، تتحدث
في المطلق مثلا، وينعزل بها عن الحالة التي يسقط عليها الفتوى، وهي نازلة خاصة،
وليست عامة.
هناك
قضايا أخرى اجتماعية وشخصية، تحتاج لمراجعة في ضوء متغيرات اجتماعية ونفسية مهمة،
كعدة المرأة المتوفى عنها زوجها، وقضية خروجها من بيتها، ولزومها البيت أربعة أشهر
وعشرا، تحتاج لمراجعة، وقضية استخدام المرأة للمكياج الخفيف منه خاصة، والتعطر،
خاصة في ظل نزول المرأة للعمل، وركوبها المواصلات العامة وتعرقها الشديد، فلو تم
المنع كاملا، ففي الأمر حرج نفسي يعلمه الرجل لو كان في حالتها.. هذه قضايا تحتاج
لمراجعات فقهية في ظل مستجدات اجتماعية ونفسية جديدة، وفقهنا الإسلامي فقه ثري
وعظيم، فيه معالجات لكل المستجدات، لو صادفت فقيها يجمع بين فقه الشرع، وفقه
الواقع والحياة، ويزاوج بينهما.
Essamt74@hotmail.com