ثمة تناغم عضوي بين دولة الاحتلال التي أقيمت على أرض فلسطين، وبين المنظومة الاستعمارية الرأسمالية التي ارتبطت تاريخياً بوصول الغزاة الأوروبيين البيض إلى القارة الأمريكية، ولا تزال تؤثر حتى اليوم في السياسات الأمريكية. فنهج إبادة السكان الأصليين، والشعور بالتفوق العنصري عليهم، والسيطرة على الثروات، والتدخل العسكري لإخضاع الشعوب المجاورة وهيمنة جماعات المصالح الاقتصادية على صناعة القرار السياسي.. هذه المظاهر تمثل الجذر النفسي للمشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين.
لذلك، إن أردنا الدقة، فإن الحليف الطبيعي لدولة الاحتلال في فلسطين هي المنظومة الاستعمارية العنصرية الرأسمالية في أمريكا، وليس اليهود الأمريكيين.
اليهود في أمريكا ليسوا سواءً، ومنهم أمة قائمة بالحق وبه يعدلون.
قابلت في جولتي في عشر مدن أمريكية عشرات اليهود الطيبين الذين يرفضون الاحتلال الصهيوني، أو لا يهتمون بدعمه، ويبدون قدراً كبيراً من المشاعر الإنسانية الصادقة للتعاطف مع المظلومية الفلسطينية.
أحد الذين استضافوني في بيوتهم كانت سيدةً يهوديةً مسنةً اسمها باربرا، اشترت كتاباً اسمه المطبخ الفلسطيني خصيصاً لتتعلم طريقة صناعة الأطعمة الفلسطينية وتقديمها لي. تحدثت هذه السيدة عبر هاتفي مع أم الشهيدة رزان النجار، أيقونة مسيرة العودة، فتقطع صوت باربرا من البكاء وهي تقول: لماذا ترتكب إسرائيل هذه الجرائم باسم اليهود؟
التقيت في أمريكا أيضاً بنشطاء يهود في حركة المقاطعة الدولية (BDS)، والتقيت بيهود يرتدون قمصاناً خط عليها "الاحتلال ليس يهوديتي". كان من الذين التقيت بهم في العاصمة الأمريكية، ميكو بيليد، صاحب كتاب "ابن الجنرال"، إذ كان والده جنرالاً في جيش الاحتلال ولعب دوراً في احتلال فلسطين، وكان حلم ميكو في بداية حياته أن يكون جنرالاً مثل أبيه، لكنه تخلى عن صهيونيته وصار أحد دعاة إنهاء النظام العنصري. حين قابلته كان يعلق شعار "BDS" على قميصه.
حتى اليهود الأمريكيون المناصرون لدولة الاحتلال، فإن فريقاً منهم يناصرون هذه الدولة بدافع رومانسي. هؤلاء يختزلون صورتها في الدولة التي وعد بها الرب، والتي تمثل ملاذاً آمناً لليهود في العالم. فكرة "دولة إسرائيل" في قلوبهم ربما تشبه فكرة الخلافة الطوباوية في قلوب المسلمين.. إنهم لا يخبرون من إسرائيل ما خبرناه نحن من مذابح وتطهير عرقي واضطهاد لشعب آخر.. وعيهم بالمظلمة التي وقعت على اليهود في أوروبا والتعبئة النفسية والثقافية بتفاصيلها؛ أكبر من وعيهم بالمظلمة الجديدة التي أوقعتها العصابات الصهيونية باسم اليهود على شعب فلسطين.
زرت متحفاً يخلد أحداث الهولوكوست، وعلى مدار أكثر من ساعتين قادنا المرشد في ذلك المتحف؛ وهو يبين لنا بالصور والوثائق هول الفظائع التي أوقعها النازيون باليهود. في ختام الجولة قلت للمرشد: إننا نتعاطف مع كل مظلوم في العالم، وعلينا أن نمنع وقوع مظالم جديدة ضد أي شعب آخر.
لا تصلح النظرة الأحادية لفهم المجتمعات البشرية، فالتجربة الإنسانية أعقد من أن نختزلها في حكم واحد: "إما قديس وإما شيطان". لذلك، فإن النظرة الأقوم إلى أمريكا وغيرها ينبغي أن تكون خارج ثنائية الانبهار أو الشيطنة. النظرة المعتدلة ترى الظلم والإخفاق الأخلاقي في جوانب، وترى التفوق الثقافي والفاعلية الحضارية في جوانب أخرى.
في الحياة الاجتماعية الأمريكية رأيت المرأة إنساناً، فهي شخصية عامة ومعلمة وإعلامية وفنانة وعاملة في المتجر والمطعم وقائدة حافلة وقطار. حين تقوم المرأة بدورها الإنساني الطبيعي، تتراجع الهواجس التي تنسجها المبالغة في الخوف من فتنة المرأة، وتتفجر الطاقات المعطلة لنصف المجتمع.
لا يجد الرجل حرجاً في مشاركة المرأة في أعمال المطبخ من إعداد الطعام وجلي الصحون. حدثت أصدقاءً لي عن هذه المشاهدات فقالوا لي: ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعلها؟ قلت لهم: ما قيمة التفاخر بأفعال النبي وهي ليست مكوناً من ثقافتنا؟ الثقافة هي سلوك عملي يتواضع عليه مجتمع في مرحلة تاريخية، وليست نصوصاً نظريةً تستدعى للتفاخر وحسب.
العلاقة بين الذكر والأنثى في الثقافة الغربية تتصف بسهولة الارتباط وسهولة الانفصال، ضمن صيغة "girl friend" و"boy friend". في ثقافتنا وديننا، فإن العلاقة الشرعية هي الزواج، لكن بعض المجتمعات ربطت هذه العلاقة بتكلفة الارتباط وتعقيدات الانفصال.
نظامنا الثقافي يخلق استقراراً أكبر للأسرة، لكن التكاليف الباهظة للزواج تؤخر قدرة كثير من الشباب على إيجاد علاقة مشروعة تلبي احتياجاتهم العاطفية الطبيعية.
النمط الغربي ليس صالحاً لاستيراده إلى مجتمعاتنا؛ لأنه يتضمن إفراطاً في التساهل، لكننا نحتاج وفق هويتنا الخاصة إلى تيسير فكرة الزواج. إذ إن قدرة الشاب والفتاة على الاستقرار النفسي والعاطفي ليس قضية شهوة جنسية وحسب، بل هي ضرورة للتنمية والإنتاج؛ لأن الفرد المستقر نفسياً هو القادر على المساهمة في خلق مجتمع فاعل ومنتج.
أكثر التكاليف المرتبطة بالزواج في مجتمعاتنا مدفوعة باعتبارات ثقافية وليست مقتضى دينياً، وهو ما يوفر أمامنا مساحةً واسعةً من المرونة لإسقاط هذه الأغلال، وإيجاد صيغة من الزواج الميسر التي تحصن الشباب من الفتن وتمنحهم القدرة على تلبية احتياجاتهم الطبيعية دون عنت ومشقة.
لذلك، إن أردنا الدقة، فإن الحليف الطبيعي لدولة الاحتلال في فلسطين هي المنظومة الاستعمارية العنصرية الرأسمالية في أمريكا، وليس اليهود الأمريكيين.
اليهود في أمريكا ليسوا سواءً، ومنهم أمة قائمة بالحق وبه يعدلون.
قابلت في جولتي في عشر مدن أمريكية عشرات اليهود الطيبين الذين يرفضون الاحتلال الصهيوني، أو لا يهتمون بدعمه، ويبدون قدراً كبيراً من المشاعر الإنسانية الصادقة للتعاطف مع المظلومية الفلسطينية.
أحد الذين استضافوني في بيوتهم كانت سيدةً يهوديةً مسنةً اسمها باربرا، اشترت كتاباً اسمه المطبخ الفلسطيني خصيصاً لتتعلم طريقة صناعة الأطعمة الفلسطينية وتقديمها لي. تحدثت هذه السيدة عبر هاتفي مع أم الشهيدة رزان النجار، أيقونة مسيرة العودة، فتقطع صوت باربرا من البكاء وهي تقول: لماذا ترتكب إسرائيل هذه الجرائم باسم اليهود؟
التقيت في أمريكا أيضاً بنشطاء يهود في حركة المقاطعة الدولية (BDS)، والتقيت بيهود يرتدون قمصاناً خط عليها "الاحتلال ليس يهوديتي". كان من الذين التقيت بهم في العاصمة الأمريكية، ميكو بيليد، صاحب كتاب "ابن الجنرال"، إذ كان والده جنرالاً في جيش الاحتلال ولعب دوراً في احتلال فلسطين، وكان حلم ميكو في بداية حياته أن يكون جنرالاً مثل أبيه، لكنه تخلى عن صهيونيته وصار أحد دعاة إنهاء النظام العنصري. حين قابلته كان يعلق شعار "BDS" على قميصه.
حتى اليهود الأمريكيون المناصرون لدولة الاحتلال، فإن فريقاً منهم يناصرون هذه الدولة بدافع رومانسي. هؤلاء يختزلون صورتها في الدولة التي وعد بها الرب، والتي تمثل ملاذاً آمناً لليهود في العالم. فكرة "دولة إسرائيل" في قلوبهم ربما تشبه فكرة الخلافة الطوباوية في قلوب المسلمين.. إنهم لا يخبرون من إسرائيل ما خبرناه نحن من مذابح وتطهير عرقي واضطهاد لشعب آخر.. وعيهم بالمظلمة التي وقعت على اليهود في أوروبا والتعبئة النفسية والثقافية بتفاصيلها؛ أكبر من وعيهم بالمظلمة الجديدة التي أوقعتها العصابات الصهيونية باسم اليهود على شعب فلسطين.
زرت متحفاً يخلد أحداث الهولوكوست، وعلى مدار أكثر من ساعتين قادنا المرشد في ذلك المتحف؛ وهو يبين لنا بالصور والوثائق هول الفظائع التي أوقعها النازيون باليهود. في ختام الجولة قلت للمرشد: إننا نتعاطف مع كل مظلوم في العالم، وعلينا أن نمنع وقوع مظالم جديدة ضد أي شعب آخر.
لا تصلح النظرة الأحادية لفهم المجتمعات البشرية، فالتجربة الإنسانية أعقد من أن نختزلها في حكم واحد: "إما قديس وإما شيطان". لذلك، فإن النظرة الأقوم إلى أمريكا وغيرها ينبغي أن تكون خارج ثنائية الانبهار أو الشيطنة. النظرة المعتدلة ترى الظلم والإخفاق الأخلاقي في جوانب، وترى التفوق الثقافي والفاعلية الحضارية في جوانب أخرى.
في الحياة الاجتماعية الأمريكية رأيت المرأة إنساناً، فهي شخصية عامة ومعلمة وإعلامية وفنانة وعاملة في المتجر والمطعم وقائدة حافلة وقطار. حين تقوم المرأة بدورها الإنساني الطبيعي، تتراجع الهواجس التي تنسجها المبالغة في الخوف من فتنة المرأة، وتتفجر الطاقات المعطلة لنصف المجتمع.
لا يجد الرجل حرجاً في مشاركة المرأة في أعمال المطبخ من إعداد الطعام وجلي الصحون. حدثت أصدقاءً لي عن هذه المشاهدات فقالوا لي: ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعلها؟ قلت لهم: ما قيمة التفاخر بأفعال النبي وهي ليست مكوناً من ثقافتنا؟ الثقافة هي سلوك عملي يتواضع عليه مجتمع في مرحلة تاريخية، وليست نصوصاً نظريةً تستدعى للتفاخر وحسب.
العلاقة بين الذكر والأنثى في الثقافة الغربية تتصف بسهولة الارتباط وسهولة الانفصال، ضمن صيغة "girl friend" و"boy friend". في ثقافتنا وديننا، فإن العلاقة الشرعية هي الزواج، لكن بعض المجتمعات ربطت هذه العلاقة بتكلفة الارتباط وتعقيدات الانفصال.
نظامنا الثقافي يخلق استقراراً أكبر للأسرة، لكن التكاليف الباهظة للزواج تؤخر قدرة كثير من الشباب على إيجاد علاقة مشروعة تلبي احتياجاتهم العاطفية الطبيعية.
النمط الغربي ليس صالحاً لاستيراده إلى مجتمعاتنا؛ لأنه يتضمن إفراطاً في التساهل، لكننا نحتاج وفق هويتنا الخاصة إلى تيسير فكرة الزواج. إذ إن قدرة الشاب والفتاة على الاستقرار النفسي والعاطفي ليس قضية شهوة جنسية وحسب، بل هي ضرورة للتنمية والإنتاج؛ لأن الفرد المستقر نفسياً هو القادر على المساهمة في خلق مجتمع فاعل ومنتج.
أكثر التكاليف المرتبطة بالزواج في مجتمعاتنا مدفوعة باعتبارات ثقافية وليست مقتضى دينياً، وهو ما يوفر أمامنا مساحةً واسعةً من المرونة لإسقاط هذه الأغلال، وإيجاد صيغة من الزواج الميسر التي تحصن الشباب من الفتن وتمنحهم القدرة على تلبية احتياجاتهم الطبيعية دون عنت ومشقة.
شارك
المزيد حول هذا الموضوع
المزيد من هذا الكاتب
