(1)
مع كثرة الرافضين للانقلاب العسكري في
مصر، وما ترتب عليه من إجرام في حق مصر وشعبها، تختلف مواقف الرافضين بناءً على تصورهم لطبيعة النظام الذي تولد نتيجة الانقلاب.. نحن لا نتكلم عن مؤيدين أتوا بهذا الموقف نتيجة خوف بعدما رأوا ما حدث للرافضين من مجازر عند المنصة والحرس الجمهوري وفي رابعة، وفي كل ميادين مصر، كرد فعل للانقلابيين ضد من لم يستسلم ويرضى من الشعب ذلك الانتقام؛ الذي امتد بعد ذلك لكل من أيد الانقلاب في بدايته ثم رفضه، بعدما اتضح لهم حجم الخراب الذي تم بسبب هذا الانقلاب.. وهناك الكارهون للإسلاميين الذين مارسوا العمل السياسي وجاءت بهم الانتخابات على غير إرادتهم، ويمكن إضافة الكارهين للإسلام كمنهج حياة ضمن هؤلاء.
وهناك أصحاب المصالح والمنسجمون مع منهج القهر والفساد، والمستفيدون بشكل شخصي من هذا المناخ. وهنا حوارنا حول فئة الرافضين: هل هم معارضون أم مقاومون؟
(2)
تنشأ المعارضة لنظام معترف به، وتنصبّ الخلافات على السياسات والإجراءات. فمن اعترف بطبيعة النظام القائم وأقر بشرعية توليه السلطة؛ فله الحق أن يعارضه ويختلف معه، وهذا أمر غير وارد لدى المقاومين؛ لأنهم لا يعترفون بنظام تولّد بعد انقلاب عسكري دموي فاشي، منع كل من رفضه وحرمه من إعلامه ومن وجوده القانوني، بل أحيانا حرمه من حياته نفسها. وهذا عين ما فعله انقلاب 3 تموز/ يوليو2013م في مصر، وقد توثق ذلك بشكل كامل على كل المستويات. وهنا نحتاج أن نناقش بشكل بسيط دون توسع؛ الاختلاف بين المعارض والمقاوم، أو الثائر من حيث الرؤية والبرنامج.
(3)
المقاومون يرون أن رؤيتهم تؤكد أن مصر والأمة الإسلامية تعيش لحظة تاريخية فارقة، وهي تمثل بداية مرحلة انتقالية ما بين الاستضعاف والانكشاف؛ إلى مرحلة يقظة واستجماع قوة تنتهي بمرحلة منعة وقوة، وبناء حضاري جديد يأخذ دورته في الشرق هذه المرة.
وخطورة المرحلة أن الوعي بها ليس كاملا، وأن مرحلة اليقظة والطموح هذه تحمل في طياتها طاقة تغييرية هائلة، لكنها تفتقد حتى الآن لأدوات لابد منها لفرض الإرادة وتحقيق الطموح، ولهذا السبب الجوهري لا بد من العمل على إبقاء شعلة
الثورة والمقاومة قائمة، حتى لو خفت لهيبها أحيانا. فنحن يقينا تعرفنا على إصرار الانقلابيين ومن خلفهم (سواء كانوا داعمين إقليميين أو دوليين) على تمسكهم، تصريحا لا تلميحا الآن، بنموذج الدولة العلمانية الذي فشل في عالمنا الإسلامي. ولا تنسوا تصريح قائد الانقلاب عندما صرح بأن "التعاطف مع الدين قلّ عن الأول".
(4)
نموذج الدولة العلمانية فرض على المسلمين كبديل عن فكرة الخلافة أو فكرة الكيان الواحد الكبير، رغم أنهم لجأوا إليه في كل تحالفاتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية (الاتحاد الأوروبي، أسيان، الناتو، البريكس، الثمانية الكبار حتى الاشتراكية الدولية)، وتطبيقه في الغرب كانت له فائدة؛ أنه نزع سطوة الكنيسة المتطرفة في التأثير على حياة الناس، كما حكى لنا التاريخ، فعمد إلى فصل الدين عن السياسة بل والحياة.
ولذا، لم أتعجب عندما قال لي أحد النشطاء المسلمين في أوروبا أن النموذج العلماني حمى وجود المسلمين في أوروبا؛ لأنه نجّاهم من الاستئصال كما حدث في القرون الوسطى. أما في عالمنا الإسلامي، فقد كان نموذج الدولة العلمانية الذي فرض على حياة المسلمين وبالا (وما زال)، فهو نموذج استعبادي قائم على مص دماء الشعوب ونهب ثرواتهم، وهو نموذج استبدادي لأن دائرة الحكم فيه تدور في نخب محددة لا يمكن تجاوزها (مثلما حدث في مصر)، وهو نموذج عنصري يقرب إليه من يشاء ويستبعد ويحاصر، بل ويستأصل من يشاء بناءً على توجه أو مذهب سياسي أو انتماء أو أصل عرقي أو ثقافة مغايرة، فهو نموذج إقصائي بامتياز.
لقد نجح نموذج الدولة العلماني في أوروبا لأنه خلصهم من استبداد وتخلف الكنيسة، بينما فشل في بلاد المسلمين لأنه نزع رحمة الإسلام وقضى على مقومات العدل والرحمة والأخلاق، ولم يدرك المسلمون معنى "أننا قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".
(5)
المشكل هنا في الرؤية هو بين موقف يرى أن ما حدث في 3 تموز/ يوليو وما بعدها مرتبط بالغدر والخيانة والمحن التي تظلل طريق الدعاة إلى الله ولا تفلح فيه مقاومة، بل الاستسلام للأمر الواقع في محاولة لتخفيف الضغوط الواقعة والخسائر قدر الإمكان، وهذا اجتهاد مرتبط بالمسار الإصلاحي الغالب عند معظم القيادات وقطاع كبير في الحركة الإسلامية (
الإخوان المسلمين)، في مقابل رؤية تؤمن بالمسار الثوري المقاوم والراغب في تغيير حقيقي؛ نتيجة كسر حاجز الخوف بعد الثورة والتعلم والاستفادة من تجارب الماضي، والإصرار على الوجود الفعال وكسر احتكار أعداء الأمة والسيطرة على أنظمة الحكم، ووقف نهب ثروات الأمة والاقتناع بأن الثورة والمقاومة تحتاجان إلى منهج ثوري؛ لا منهج إصلاحي في هذه الظروف.
(6)
وفي رأيي أن اختلاف الرؤى هذا هو سبب مشاكل الاختلاف الذي حدث في صفوف الحركة الإسلامية بشكل واسع، خاصة إذا اقتصر تعريف المسار المقاوم على استعمال العنف والقوة، وهو تعريف خاطئ بالكلية، واعتباره كذلك هو من التلبيس والفتنة التي أحدثها البعض بين الإخوان. فعدم الاعتراف بالانقلاب وما ترتب عليه هو فعل ثوري مقاوم، وكلا الفريقين يمارسه ويعتبر أن الشرعية الوحيدة التي تحكم هي شرعية العنف والقهر والقتل والإكراه.
إذن، الأمر يحتاج لحوار لاعتماد أدوات المسار المقاوم بشكل عملي علمي واقعي، وقد نتج عن اختلاف التصورات حالة من الضعف ما كان ينبغي أن تكون، بدلا من التكامل والتنسيق في الأدوار بينهما. وأعتقد أن هناك ثلاثة إشكالات تؤخر النصر وإنهاء الانقلاب وآثاره في مصر والمنطقة؛ هي بأيدينا بعيدا عن إرادة المتآمرين ورغبتهم في إخضاع الأمة بكاملها وكسر إرادة التغيير في نفوس شعوبها، فما هي تلك الثلاثية؟
(7)
أولا: غياب الصورة الإيمانية الكاملة التي تدمج التوكل مع السعي والقدرة مع الإرادة والإيمان، مع البذل واليقين مع الصبر والتفاؤل مع الهمة، وهو أمر يطول فيه الكلام والتوضيح.
ثانيا: غياب البرنامج الواحد (رغم كثرة البرامج التي طرحت وما زالت لم تطرح وتحت الدراسة)، وذلك لوضع خطوات متفق عليها لمواجهة الانقلاب، ثم للتخطيط وإدارة المرحلة الانتقالية بكل تعقيداتها المحلية والإقليمية والدولية.
ثالثا: غياب الجندي المجهول الذي يسعي ويبذل دون أن يكون له مطلب أو رغبة في الظهور، مما يجعل سعيه مشكورا ومحل تقدير من الجميع، فأغلب من في الصورة يطرح ويتحرك، وهو جزء من التصور المعروض، وربما يخص نفسه بشيء دون انكار للذات.
وأعتقد أنه عندما تحل المشاكل الثلاث سنجد وقتها مسارا واحدا وبرنامجا واحدا كحد أدنى، وفي ظله يكون الاتفاق والتنفيذ لكسر هذا الانقلاب الذي أفسد البلاد والعباد.
وسنرى قيادات تعمل في صمت وتقدم دون إرادتها. لتتبوأ الصدارة وتحمل المسؤولية.
(8)
تلك الرؤية تجعلنا في مصاف من يمارسون الشدة في غير عنف وليس في غير ضعف، وندرك متى يوضع السيف في موضعه لا موضع الندي، ولا نضع الندي في موضع السيف ونوقن بعد مراجعات واجبة:
إننا أوتينا ملكا فلم نحسن سياسته، وإن هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أول الأمة، وإن الثورات تفشل وتسقط حين تتحاكم إلى القوانين التي ثارت عليها، وإنه لا تنازل عن المبادئ لتحقيق المصالح.
إن ما حدث في رابعة والنهضة وكل ميادين وشوارع وبيوت مصر حتى الآن إنما هو ثمن لهذه الثورة بسيط، وقد يتصاعد إلى آلام لتكون هي آلام المخاض لولادة جديدة لوطن حر يحكمه أصحابه من الداخل، وهذا يحتاج إلى ثلاثية اليقين والصبر والسعي، وثلاثية الوعي والإرادة والإدارة.
(وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله).